للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

دُبُرَ بِالْفَتْحِ، كَأَنْ جَعَلَهُمَا عَلَمَيْنِ لِلْجِهَتَيْنِ، فَمَنَعَهُمَا الصَّرْفُ لِلْعَلَمِيَّةِ وَالتَّأْنِيثِ. وَقَالَ أَيْضًا:

(فَإِنْ قُلْتَ) : إِنْ دَلَّ قُدَّ قَمِيصُهُ مِنْ دُبُرٍ عَلَى أَنَّهَا كَاذِبَةٌ وَأَنَّهَا هِيَ الَّتِي تَبِعَتْهُ وَاجْتَذَبَتْ ثَوْبَهُ إِلَيْهَا فَقَدَّتْهُ، فَمِنْ أَيْنَ دَلَّ قَدُّهُ مِنْ قُبُلٍ عَلَى أَنَّهَا صَادِقَةٌ، وَأَنَّهُ كَانَ تَابِعُهَا؟ (قُلْتُ) : مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ إِذَا كَانَ تَابَعَهَا وَهِيَ دَافِعَةٌ عَنْ نَفْسِهَا فَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ قُدَّامِهِ بِالدَّفْعِ.

وَالثَّانِي: أَنْ يُسْرِعَ خَلْفَهَا لِيَلْحَقَهَا، فَيَتَعَثَّرُ فِي قُدَّامِ قَمِيصِهِ فَيَشُقُّهُ انْتَهَى. وَقَوْلُهُ: وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ، وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ، جُمْلَتَانِ مُؤَكِّدَتَانِ لِأَنَّ مِنْ قَوْلِهِ: فَصَدَقَتْ، يُعْلَمُ كَذِبُهُ. وَمِنْ قَوْلِهِ: فَكَذَبَتْ، يُعْلَمُ صِدْقُهُ. وَفِي بِنَاءِ قُدَّ لِلْمَفْعُولِ سَتْرٌ عَلَى مَنْ قَدَّهُ، وَلَمَّا كَانَ الشَّاهِدُ مِنْ أَهْلِهَا رَاعَى جِهَةَ الْمَرْأَةِ فَبَدَأَ بِتَعْلِيقِ صِدْقِهَا عَلَى تَبَيُّنِ كَوْنِ الْقَمِيصِ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ، وَلَمَّا كَانَتْ كُلَّ جُمْلَةٍ مُسْتَقِلَّةٌ بِنَفْسِهَا أُبْرِزَ اسْمُ كَانَ بِلَفْظِ الْمَظْهَرِ، وَلَمْ يُضْمَرْ لِيَدُلَّ عَلَى الِاسْتِقْلَالِ، وَلِكَوْنِ التَّصْرِيحِ بِهِ أَوْضَحَ. وَهُوَ نَظِيرُ

قَوْلِهِ: «مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ رَشَدَ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ غَوَى»

فَلَمَّا رَأَى الْعَزِيزُ، وَقِيلَ: الشَّاهِدُ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ: إِنَّهُ أَيْ إِنَّ قَوْلَكِ: مَا جَزَاءُ إِلَى آخِرِهِ قَالَهُ الزَّجَّاجُ، أَوْ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ وَهُوَ طَمَعُهَا فِي يُوسُفَ ذَكَرَهُ الْمَاوَرَدِيُّ وَالزَّمَخْشَرِيُّ، أَوْ إِلَى تَمْزِيقِ الْقَمِيصِ قَالَهُ: مُقَاتِلٌ وَالْخِطَابُ فِي مِنْ كَيْدِكُنَّ لَهَا وَلِجَوَارِيهَا، أَوْ لَهَا وَلِلنِّسَاءِ. وَوَصَفَ كَيْدَ النِّسَاءِ بِالْعِظَمِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ يُوجَدُ فِي الرِّجَالِ، لِأَنَّهُنَّ أَلْطَفُ كَيْدًا بِمَا جُبِلْنَ عَلَيْهِ وَبِمَا تَفَرَّغْنَ لَهُ، وَاكْتَسَبَ بَعْضُهُنَّ مِنْ بَعْضٍ، وَهُنَّ أَنْفَذُ حِيلَةً. وَقَالَ تَعَالَى: وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ «١» وَأَمَّا اللَّوَاتِي فِي الْقُصُورِ فَمَعَهُنَّ مِنْ ذَلِكَ مَا لَا يُوجَدُ لِغَيْرِهِنَّ، لِكَوْنِهِنَّ أَكْثَرَ تَفَرُّغًا مِنْ غَيْرِهِنَّ، وَأَكْثَرَ تَأَنُّسًا بِأَمْثَالِهِنَّ.

يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا أَيْ: عَنْ هَذَا الْأَمْرِ وَاكْتُمْهُ، وَلَا تَتَحَدَّثْ بِهِ. وَفِي نِدَائِهِ بِاسْمِهِ تَقْرِيبٌ لَهُ وَتَلْطِيفٌ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْهَا وَقَالَ: وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ بِهَذَا هُوَ الْعَزِيزُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَادَاهُ الشَّاهِدُ وَهُوَ الرَّجُلُ الَّذِي كَانَ مَعَ الْعَزِيزِ وَقَالَ: اسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ، أَيْ لِزَوْجِكِ وَسَيِّدِكِ انْتَهَى. ثُمَّ ذَكَرَ سَبَبَ الِاسْتِغْفَارِ وَهُوَ قَوْلُهُ: لِذَنْبِكِ، ثُمَّ أَكَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ، وَلَمْ يَقُلْ مِنَ الْخَاطِئَاتِ، لِأَنَّ الْخَاطِئِينَ أَعَمُّ، لِأَنَّهُ يَنْطَلِقُ عَلَى الذُّكُورِ والإناث بالتغليب. يقال: خطىء إِذَا أَذْنَبَ مُتَعَمِّدًا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:

وَمَا كَانَ الْعَزِيزُ إِلَّا حَلِيمًا، رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ قَلِيلَ الْغَيْرَةِ انْتَهَى. وَتُرْبَةُ إِقْلِيمِ قِطْفِيرَ اقْتَضَتْ هَذَا، وَأَيْنَ هَذَا مِمَّا جَرَى لِبَعْضِ مُلُوكِنَا أَنَّهُ كَانَ مَعَ نُدَمَائِهِ الْمُخْتَصِّينَ بِهِ فِي مَجْلِسِ أُنْسٍ وجارية


(١) سورة الفلق: ١١٣/ ٤.

<<  <  ج: ص:  >  >>