للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أَنَّكُمَا رُزِقْتُمَاهُ إِلَّا أَعْلَمْتُكُمَا بِتَأْوِيلِ ذَلِكَ الطَّعَامِ أَيْ: بما يؤول إِلَيْهِ أَمْرُهُ فِي الْيَقَظَةِ، قَبْلَ أَنْ يَظْهَرَ ذَلِكَ التَّأْوِيلُ الَّذِي أُعْلِمُكُمَا بِهِ.

فَرُوِيَ أَنَّهُمَا قَالَا لَهُ: وَمِنْ أَيْنَ لَكَ مَا تَدَّعِيهِ مِنَ الْعِلْمِ وَأَنْتَ لَسْتَ بِكَاهِنٍ وَلَا مُنَجِّمٍ؟ فَقَالَ لَهُمَا: ذَلِكَ مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي.

وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ:

لَا يَأْتِيكُمَا إِلَى آخِرِهِ، أَنَّهُ فِي الْيَقَظَةِ، وَأَنَّ قَوْلَهُ: مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ إِذْ ذَاكَ كَانَ نَبِيًّا يُوحَى إِلَيْهِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: أَنِّي تَرَكْتُ، اسْتِئْنَافُ إِخْبَارٍ بِمَا هُوَ عَلَيْهِ، إِذْ كَانَا قَدْ أَحَبَّاهُ وَكَلِفَا بِحُبِّهِ وَبِحُسْنِ أَخْلَاقِهِ، لِيُعْلِمَهُمَا مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ مُخَالَفَةِ قَوْمِهِمَا فَيَتْبَعَاهُ.

وَفِي الْحَدِيثِ: «لِأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا خير لك من حمر النِّعَمِ»

وَعَبَّرَ بِتَرَكْتُ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَتَشَبَّثْ بِتِلْكَ الْمِلَّةِ قَطُّ، إِجْرَاءٌ لِلتَّرْكِ مَجْرَى التَّجَنُّبِ مِنْ أَوَّلِ حَالَةٍ، وَاسْتِجْلَابًا لَهُمَا لِأَنْ يَتْرُكَا تِلْكَ الْمِلَّةِ الَّتِي كَانَا فِيهَا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِنِّي تَرَكْتُ تَعْلِيلًا لِمَا قَبْلَهُ أَيْ: عَلَّمَنِي ذَلِكَ، وَأُوحِيَ إِلَيَّ لِأَنِّي رَفَضْتُ مِلَّةَ أُولَئِكَ، وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ الْأَنْبِيَاءِ، وَهِيَ الْمِلَّةُ الْحَنِيفِيَّةُ.

وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ هُمْ أَهْلُ مِصْرَ، وَمَنْ كَانَ الْفَتَيَانُ عَلَى دِينِهِمْ. وَنَبَّهَ عَلَى أَصْلَيْنِ عَظِيمَيْنِ وَهُمَا: الْإِيمَانُ بِاللَّهِ، وَالْإِيمَانُ بِدَارِ الْجَزَاءِ، وَكَرَّرَهُمْ عَلَى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ وَحُسْنِ ذَلِكَ الْفَصْلِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَتَكْرِيرُهُمْ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُمْ خُصُوصًا كَافِرُونَ بِالْآخِرَةِ، وَأَنَّ غَيْرَهُمْ مُؤْمِنُونَ بِهَا. وَلِتَوْكِيدِ كُفْرِهِمْ بِالْجَزَاءِ تَنْبِيهًا عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الظُّلْمِ وَالْكَبَائِرِ الَّتِي لَا يَرْتَكِبُهَا إِلَّا مَنْ هُوَ كَافِرٌ بِدَارِ الْجَزَاءِ انْتَهَى. وَلَيْسَتْ عِنْدَنَا هُمْ تَدُلُّ عَلَى الْخُصُوصِ، وَبَاقِي أَلْفَاظِهِ أَلْفَاظُ الْمُعْتَزِلَةِ. وَلَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ رَفَضَ مِلَّةَ أُولَئِكَ ذَكَرَ اتِّبَاعَهُ مِلَّةَ آبَائِهِ لِيُرِيَهُمَا أَنَّهُ مِنْ بَيْتِ النُّبُوَّةِ، بَعْدَ أَنْ عَرَّفَهُمَا أَنَّهُ نَبِيٌّ، بِمَا ذَكَرَ مِنْ أَخْبَارِهِ بِالْغُيُوبِ لِتَقْوَى رَغْبَتُهُمَا فِي الِاسْتِمَاعِ إِلَيْهِ وَاتِّبَاعِ قَوْلِهِ. وَقَرَأَ الْأَشْهَبُ الْعُقَيْلِيُّ وَالْكُوفِيُّونَ: آبَائِي بِإِسْكَانِ الياء، وَهِيَ مَرْوِيَّةٌ عَنْ أَبِي عَمْرٍو. مَا كَانَ لَنَا مَا صَحَّ وَلَا اسْتَقَامَ لَنَا مَعْشَرُ الْأَنْبِيَاءِ أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ عُمُومٌ فِي الْمَلَكِ وَالْجِنِّيِّ وَالْإِنْسِيِّ، فَكَيْفَ بِالصَّنَمِ الَّذِي لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ؟ فَشَيْءٌ يُرَادُ بِهِ الْمُشْرَكُ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْمَصْدَرُ أَيْ: مِنْ شَيْءٍ مِنَ الْإِشْرَاكِ، فَيَعُمُّ الْإِشْرَاكُ، وَيَلْزَمُ عُمُومُ مُتَعَلِّقَاتِهِ. ومن زَائِدَةٌ لِأَنَّهَا فِي حَيِّزِ النَّفْيِ، إِذِ الْمَعْنَى: مَا نُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا، وَالْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى شِرْكِهِمْ وَمِلَّتِهِمْ أَيْ: ذَلِكَ الدِّينُ وَالشَّرْعُ الْحَنِيفِيُّ الَّذِي انْتَفَى فِيهِ الإشراك بالله، مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا أَيْ: عَلَى الرُّسُلِ، إِذْ خُصُّوا بِأَنْ كَانُوا وَسَائِطَ بين الله وعباده. وعلى النَّاسِ أَيْ: عَلَى الْمُرْسَلِ إِلَيْهِمْ، إِذْ يُسَاقُونَ بِهِ إِلَى النَّجَاةِ حَيْثُ أَرْشَدُوهُمْ إِلَيْهِ. وَقَوْلُهُ:

لَا يَشْكُرُونَ أَيْ: لَا يَشْكُرُونَ فَضْلَ اللَّهِ فَيُشْرِكُونَ وَلَا يَنْتَبِهُونَ. وَقِيلَ: ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا، لِأَنَّهُ نَصَبَ لَنَا الْأَدِلَّةَ الَّتِي نَنْظُرُ فِيهَا وَنَسْتَدِلُّ بِهَا، وَقَدْ نَصَبَ مِثْلَ ذَلِكَ لِسَائِرِ النَّاسِ مِنْ

<<  <  ج: ص:  >  >>