فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ: لَمَّا أَلْقَى إِلَيْهِمَا مَا كَانَ أَهَمُّ وَهُوَ أَمْرُ الدِّينِ رَجَاءً فِي إِيمَانِهِمَا، نَادَاهُمَا ثَانِيًا لِتَجْتَمِعَ أَنْفُسُهُمَا لِسَمَاعِ الْجَوَابِ،
فَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ: لِبُنُو: أَمَّا أَنْتَ فَتَعُودُ إِلَى مَرْتَبَتِكَ وَسِقَايَةَ رَبِّكَ، وَمَا رَأَيْتَ مِنَ الْكَرَامَةِ وَحُسْنِهَا هُوَ الْمَلِكُ وَحُسْنُ حَالِكَ عِنْدَهُ، وَأَمَّا الْقُضْبَانُ الثَّلَاثَةُ فَإِنَّهَا ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ تَمْضِي فِي السَّجْنِ ثُمَّ تَخْرُجُ وَتَعُودُ إِلَى مَا كُنْتَ عَلَيْهِ. وَقَالَ لِمُلَحِّبَ: أَمَّا أَنْتَ فَمَا رَأَيْتَ مِنَ السُّلَالِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ تَخْرُجُ فَتُصْلَبُ، فَرُوِيَ أَنَّهُمَا قَالَا: مَا رَأَيْنَا شَيْئًا، وَإِنَّمَا تَحَالَمْنَا لِنُجَرِّبَكَ. وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ إِلَّا الَّذِي حَدَّثَهُ بِالصَّلْبِ. وَرُوِيَ أَنَّهُمَا رَأَيَا ثُمَّ أَنْكَرَا.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَيَسْقِي رَبَّهُ مِنْ سَقَى، وَفِرْقَةٌ: فَيُسْقِي مِنْ أَسْقَى، وَهُمَا لُغَتَانِ بمعنى واحد. وقرىء فِي السَّبْعَةِ: نَسْقِيكُمْ وَنُسْقِيكُمْ. وَقَالَ صَاحِبُ الْلَوَامِحِ: سَقَى وَأَسْقَى بِمَعْنًى وَاحِدٍ فِي اللُّغَةِ، وَالْمَعْرُوفُ أَنَّ سَقَاهُ نَاوَلَهُ لِيَشْرَبَ، وَأَسْقَاهُ جَعَلَ لَهُ سُقْيًا. وَنُسِبَ ضَمُّ الْفَاءِ لِعِكْرِمَةَ وَالْجَحْدَرِيِّ، وَمَعْنَى رَبَّهُ.
سَيِّدَهُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ وَالْجَحْدَرِيُّ: فَيُسْقَى رَبُّهُ خَمْرًا بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الْقَافِ، أَيْ مَا يَرْوِيهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ فَيُسْقَى رَبُّهُ، فَيُسْقَى مَا يُرْوَى بِهِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، ثُمَّ أَخْبَرَهُمَا يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ غَيْبِ عِلْمِهِ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ أَنَّ الْأَمْرَ قَدْ قُضِيَ وَوَافَقَ الْقَدَرَ، وَسَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ مِنْكُمَا حُلْمٌ، أَوْ تَحَالُمٌ. وَأَفْرَدَ الْأَمْرَ وَإِنْ كَانَ أَمْرُ هَذَا، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ إِنَّمَا هُوَ عَاقِبَةُ أَمْرِهِمَا الَّذِي أدخلا به السجن، وهو اتِّهَامُ الْمَلِكِ إِيَّاهُمَا بِسَمِّهِ، فَرَأَيَا مَا رَأَيَا، أَوْ تَحَالَمَا بِذَلِكَ، فَقُضِيَتْ وَأُمْضِيَتْ تِلْكَ الْعَاقِبَةُ مِنْ نَجَاةِ أحدهما، وهلاك الآخر. وقال أَيْ: يُوسُفُ لِلَّذِي ظَنَّ: أَيْ أَيْقَنَ هُوَ أَيْ يُوسُفُ: أَنَّهُ نَاجٍ وَهُوَ السَّاقِي.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ظَنَّ عَلَى بَابِهِ، وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الَّذِي وَهُوَ السَّاقِي أَيْ: لَمَّا أَخْبَرَهُ يُوسُفُ بِمَا أَخْبَرَهُ، تَرَجَّحَ عِنْدَهُ أَنَّهُ يَنْجُو، وَيَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الظَّنُّ عَلَى بَابِهِ، وَيَكُونُ مُسْنَدًا إِلَى يُوسُفَ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ قَتَادَةُ وَالزَّمَخْشَرِيُّ. قَالَ قَتَادَةُ: الظَّنُّ هُنَا عَلَى بَابِهِ، لِأَنَّ عِبَارَةَ الرُّؤْيَا ظَنٌّ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الظَّانُّ هُوَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنْ كَانَ تَأْوِيلُهُ بِطَرِيقِ الِاجْتِهَادِ فَيَبْعُدُ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: قُضِيَ الْأَمْرُ، فِيهِ تَحَتُّمُ مَا جَرَى بِهِ الْقَدَرُ وَإِمْضَاؤُهُ، فَيَظْهَرُ أَنَّ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْوَحْيِ، إِلَّا إِنْ حُمِلَ قُضِيَ الْأَمْرُ عَلَى قُضِيَ كَلَامِي، وَقُلْتُ مَا عِنْدِي، فَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ عَلَى يُوسُفَ. فَالْمَعْنَى أَنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قال لِسَاقِي الْمَلِكِ حِينَ عَلِمَ أَنَّهُ سَيَعُودُ إِلَى حَالَتِهِ الْأُولَى مَعَ الْمَلِكِ: اذْكُرْنِي عِنْدَ الْمَلِكِ أَيْ: بِعِلْمِي وَمَكَانَتِي وَمَا أَنَا عَلَيْهِ مِمَّا آتَانِي اللَّهُ، أَوِ اذْكُرْنِي بِمَظْلَمَتِي وَمَا امْتُحِنْتُ بِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ. وَهَذَا مِنْ يُوسُفَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعَانَةِ وَالتَّعَاوُنِ فِي تَفْرِيجِ كَرْبِهِ، وَجَعْلِهِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَتَقْدِيرِهِ سَبَبًا لِلْخَلَاصِ كَمَا جَاءَ عَنْ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ:
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute