للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ. قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ. يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ

: وَتَوَلَّى عَنْهُمْ أَيْ أَعْرَضَ عَنْهُمْ كَرَاهَةً لما جاؤوا بِهِ، وَأَنَّهُ سَاءَ ظَنُّهُ بِهِمْ، وَلَمْ يُصَدِّقْ قَوْلَهُمْ، وَجَعَلَ يَتَفَجَّعُ وَيَتَأَسَّفُ. قَالَ الْحَسَنُ: خُصَّتْ هَذِهِ الْأُمَّةُ بِالِاسْتِرْجَاعِ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِ يعقوب: يا أسفى، وَنَادَى الْأَسَفَ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ عَلَى مَعْنَى: هَذَا زَمَانُكَ فَاحْضُرْ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يُضَافُ إِلَى يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ قُلِبَتْ أَلِفًا، كَمَا قَالُوا: فِي يَا غُلَامِي يَا غُلَامًا. وَقِيلَ: هُوَ عَلَى النُّدْبَةِ، وَحَذَفَ الْهَاءَ الَّتِي لِلسَّكْتِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالتَّجَانُسُ بين لفظتي الأسف ويوسف مِمَّا يَقَعُ مَطْبُوعًا غَيْرَ مُسْتَعْمَلٍ فَيُمْلِحُ وَيُبْدِعُ، وَنَحْوُهُ: اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ، وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا، مِنْ سَبَأٍ بِنَبَأٍ انْتَهَى. وَيُسَمَّى هَذَا تَجْنِيسُ التَّصْرِيفِ، وَهُوَ أَنْ تَنْفَرِدَ كُلُّ كَلِمَةٍ مِنَ الْكَلِمَتَيْنِ عَنِ الْأُخْرَى بِحَرْفٍ. وَذَكَرَ يَعْقُوبُ مَا دَهَاهُ مِنْ أمر بنيامين، والقائل لن أبرح الأرض فقدانه يُوسُفَ، فَتَأَسَّفَ عَلَيْهِ وَحْدَهُ، وَلَمْ يَتَأَسَّفْ عَلَيْهِمَا، لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي لَا يَعْلَمُ أَحَيٌّ هُوَ أَمْ مَيِّتٌ؟ بِخِلَافِ إِخْوَتِهِ. وَلِأَنَّهُ كَانَ أَصْلُ الرَّزَايَا عِنْدَهُ، إِذْ تَرَتَّبَتْ عَلَيْهِ، وَكَانَ أَحَبَّ أَوْلَادِهِ إِلَيْهِ، وَكَانَ دَائِمًا يَذْكُرُهُ وَلَا يَنْسَاهُ. وَابْيِضَاضُ عَيْنَيْهِ مِنْ تَوَالِي الْعَبْرَةِ، فَيَنْقَلِبُ سَوَادُ الْعَيْنِ إِلَى بَيَاضٍ كَدِرٍ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ كَانَ عَمِيَ لِقَوْلِهِ: فَارْتَدَّ بَصِيرًا.

وَقَالَ: وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ «١» فَقَابَلَ الْبَصِيرَ بِالْأَعْمَى. وَقِيلَ: كَانَ يُدْرِكُ إِدْرَاكًا ضَعِيفًا، وَعَلَّلَ الِابْيِضَاضَ بِالْحُزْنِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنَ الْبُكَاءِ الْمُتَوَالِي، وَهُوَ ثَمَرَةُ الْحُزْنِ، فَعَلَّلَ بِالْأَصْلِ الَّذِي نَشَأَ مِنْهُ الْبُكَاءُ وَهُوَ الْحُزْنُ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: مِنَ الْحَزَنِ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَالزَّايِ، وَقَتَادَةُ: بِضَمِّهَا، وَالْجُمْهُورُ: بِضَمِّ الْحَاءِ وَإِسْكَانِ الزَّايِ. وَالْكَظِيمُ إِمَّا لِلْمُبَالَغَةِ وَهُوَ الظَّاهِرُ اللَّائِقُ بِحَالِ يَعْقُوبَ أَيْ: شَدِيدُ الْكَظْمِ كَمَا قَالَ: وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ «٢» وَلَمْ يَشْكُ يَعْقُوبُ إِلَى أَحَدٍ، وَإِنَّمَا كَانَ يَكْتُمُهُ فِي نَفْسِهِ، وَيُمْسِكُ هَمَّهُ فِي صَدْرِهِ، فَكَانَ يَكْظِمُهُ أَيْ: يَرُدُّهُ إِلَى قَلْبِهِ وَلَا يُرْسِلُهُ بِالشَّكْوَى وَالْغَضَبِ وَالضَّجَرِ. وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فَعِيلًا بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، وَهُوَ لَا يَنْقَاسُ، وَقَالَهُ قَوْمٌ كَمَا قَالَ فِي يُونُسَ: إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ «٣» . قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَإِنَّمَا يَتَّجِهُ عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّهُ مَلِيءٌ بِحُزْنِهِ، فَكَأَنَّهُ كَظَمَ حُزْنَهُ فِي صَدْرِهِ. وَفَسَّرَ نَاسٌ الْكَظِيمَ بِالْمَكْرُوبِ وَبِالْمَكْمُودِ.

وَرُوِيَ: أَنَّهُ مَا جَفَّتْ عَيْنَاهُ مِنْ فِرَاقِ يُوسُفَ إلى لقائه ثمانين


(١) سورة فاطر: ٣٥/ ١٩.
(٢) سورة آل عمران: ٣/ ١٣٤. [.....]
(٣) سورة القلم: ٦٨/ ٤٨.

<<  <  ج: ص:  >  >>