زَوْجَيْنِ، لَمْ يُعْلَمْ أَنَّ الْمُرَادَ النَّوْعُ أَوِ الشَّخْصُ، فَلَمَّا قَالَ: اثْنَيْنِ عَلِمْنَا أَنَّهُ أَوَّلُ مَا خَلَقَ مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ لَا أَقَلَّ وَلَا أَزْيَدَ. فَالشَّجَرُ وَالزَّرْعُ كَبَنِي آدَمَ، حَصَلَ مِنْهُمْ كَثْرَةٌ، وَابْتِدَاؤُهُمْ مِنْ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ بِالشَّخْصِ وَهُمَا آدَمُ وَحَوَّاءُ. وَالِاسْتِدْلَالُ بِخَلْقِ الثَّمَرَاتِ عَلَى مَا ذَكَرَ تَعَالَى مِنْ جِهَةِ رَبُو الْجَنَّةِ فِي الْأَرْضِ، وَشَقَّ أَعْلَاهَا وَأَسْفَلَهَا، فَمِنَ الشَّقِّ الْأَعْلَى الشَّجَرَةُ الصَّاعِدَةُ، وَمِنَ الْأَسْفَلِ الْعُرُوقُ الْغَائِصَةُ، وَطَبِيعَةُ تِلْكَ الْجَنَّةِ وَاحِدَةٌ، وَتَأْثِيرَاتُ الطَّبَائِعِ وَالْأَفْلَاكِ وَالْكَوَاكِبِ فِيهَا وَاحِدٌ. ثُمَّ يَخْرُجُ من الأعلى مَا يَذْهَبُ صُعُدًا فِي الْهَوَاءِ، وَمِنَ الْأَسْفَلِ مَا يَغُوصُ فِي الثَّرَى، وَمِنَ الْمُحَالِ أَنْ يَتَوَلَّدَ مِنَ الطَّبِيعَةِ الْوَاحِدَةِ طَبِيعَتَانِ مُتَضَادَّتَانِ، فَعَلِمْنَا أَنَّ ذَلِكَ بِتَقْدِيرِ قَادِرٍ حَكِيمٍ. ثُمَّ تِلْكَ الشَّجَرَةُ يَكُونُ بَعْضُهَا خَشَبًا، وَبَعْضُهَا لَوْزًا، وَبَعْضُهَا ثَمَرًا، ثُمَّ تِلْكَ الثَّمَرَةُ يَحْصُلُ فِيهَا أَجْسَامٌ مُخْتَلِفَةُ الطَّبَائِعِ وَذَلِكَ بِتَقْدِيرِ الْقَادِرِ الْحَكِيمِ انْتَهَى. وَفِيهِ تَلْخِيصٌ. وَقِيلَ: تَمَّ الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ، فَيَكُونُ مَعْطُوفًا عَلَى مَا قَبْلَهُ مِنَ عَطْفِ الْمُفْرِدَاتِ، وَيَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ: وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ. فَالْمَعْنَى: أَنَّهُ جَعَلَ فِي الْأَرْضِ مِنْ كُلِّ ذَكَرٍ وَأُنْثَى اثْنَيْنِ، وَقِيلَ: الزَّوْجَانِ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ، وَقِيلَ: اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ وقراءاتها فِي الْأَعْرَافِ. وَخَصَّ الْمُتَفَكِّرِينَ لِأَنَّ مَا احْتَوَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَاتُ مِنَ الصَّنِيعِ الْعَجِيبِ لَا يُدْرَكُ إِلَّا بِالتَّفَكُّرِ.
وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ:
قِطَعٌ جَمْعُ قِطْعَةٍ وَهِيَ الجزء. ومتجاورات متلاصقة متداينة، قَرِيبٌ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ، وَالضَّحَّاكُ: أَرْضٌ طَيِّبَةٌ وَأَرْضٌ سَبِخَةٌ، نَبَتَتْ هَذِهِ، وَهَذِهِ إِلَى جَنْبِهَا لَا تَنْبُتُ. وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ وَقَتَادَةُ: يَعْنِي الْقُرَى الْمُتَجَاوِرَةَ. وَقِيلَ: مُتَجَاوِرَةً فِي الْمَكَانِ، مُخْتَلِفَةً فِي الصِّفَةِ، صلبة إلى رخوة. وسحرا إِلَى مَرْدٍ أَوْ مُخْصِبَةً إِلَى مُجْدِبَةٍ، وَصَالِحَةً لِلزَّرْعِ لَا لِلشَّجَرِ، وَعَكْسَهَا مَعَ انْتِظَامِ جَمِيعِهَا فِي الْأَرْضِيَّةِ. وَقِيلَ: فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ مَعْطُوفٌ أَيْ: وَغَيْرُ مُتَجَاوِرَاتٍ. وَالْمُتَجَاوِرَاتُ الْمُدُنُ وَمَا كَانَ عَامِرًا، وَغَيْرُ الْمُتَجَاوِرَاتِ الصَّحَارِي وَمَا كَانَ غَيْرَ عَامِرٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالَّذِي يَظْهَرُ مِنْ وَصْفِهِ لَهَا بِالتَّجَاوُرِ إِنَّمَا هُوَ مِنْ تُرْبَةٍ وَاحِدَةٍ، وَنَوْعٍ وَاحِدٍ. وَمَوْضِعُ الْعِبْرَةِ فِي هَذَا أَبْيَنُ، لِأَنَّهَا مَعَ اتِّفَاقِهَا في الترب وَالْمَاءِ تُفَضِّلُ الْقُدْرَةُ وَالْإِرَادَةُ بَعْضَ أَكْلِهَا عَلَى بَعْضٍ، كَمَا
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: «الدَّقَلُ، وَالْقَارِسُ، وَالْحُلْوُ، وَالْحَامِضُ»
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَيَّدَ مِنْهَا فِي هَذَا الْمِثَالِ مَا جَاوَرَ وَقَرُبَ بَعْضُهُ مِنْ بَعْضٍ، لِأَنَّ اخْتِلَافَ ذَلِكَ فِي الْأَكْلِ أَغْرَبُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute