للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ. أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ. وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ: وَلَمَّا أَقَامَ الدَّلَائِلَ عَلَى عَظِيمِ قُدْرَتِهِ بِمَا أَوْدَعَهُ مِنَ الْغَرَائِبِ فِي مَلَكُوتِهِ الَّتِي لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا سِوَاهُ، عَجِبَ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ من إنكار المشركين وجدانيته، وَتَوْهِينِهِمْ قُدْرَتَهُ لِضَعْفِ عُقُولِهِمْ فَنَزَلَ: وَإِنْ تَعْجَبْ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَإِنْ تَعْجَبْ من تكذيبهم إياك بعد ما كَانُوا حَكَمُوا عَلَيْكَ أَنَّكَ مِنَ الصَّادِقِينَ، فَهَذَا أَعْجَبُ. وَقِيلَ: وَإِنْ تَعْجَبُ يَا مُحَمَّدُ مِنْ عِبَادَتِهِمْ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا ولا نفعا بعد ما عَرَفُوا الدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى التَّوْحِيدِ، فَهَذَا أَعْجَبُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَإِنْ تَعْجَبْ مِنْ قَوْلِهِمْ يَا مُحَمَّدُ فِي إِنْكَارِ الْبَعْثِ، فَقَوْلُهُمْ عَجِيبٌ حَقِيقٌ بِأَنْ يُتَعَجَّبَ مِنْهُ، لِأَنَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى إِنْشَاءِ مَا عَدَّدَ عَلَيْكَ مِنَ الْفِطَرِ الْعَظِيمَةِ، وَلِمَ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ، كَانَتِ الْإِعَادَةُ أَهْوَنَ شَيْءٍ عَلَيْهِ وَأَيْسَرَهُ، فَكَانَ إِنْكَارُهُمْ أُعْجُوبَةً مِنَ الْأَعَاجِيبِ انْتَهَى. وَلَيْسَ مَدْلُولُ اللَّفْظِ مَا ذُكِرَ، لِأَنَّهُ جَعَلَ مُتَعَلِّقَ عَجَبِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ قولهم في إنكار البعث، فَاتَّحَدَ الْجَزَاءُ وَالشَّرْطُ، إِذْ صَارَ التَّقْدِيرُ: وَإِنْ تَعْجَبْ مِنْ قَوْلِهِمْ فِي إِنْكَارِ الْبَعْثِ فَاعْجَبْ مِنْ قَوْلِهِمْ فِي إِنْكَارِ الْبَعْثِ، وَإِنَّمَا مَدْلُولُ اللَّفْظِ أَنْ يَقَعَ مِنْكَ عَجَبٌ، فَلْيَكُنْ مِنْ قولهم: أءذا كُنَّا الْآيَةَ. وَكَانَ الْمَعْنَى الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُتَعَجَّبَ مِنْهُ: هُوَ إِنْكَارُ الْبَعْثِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْمُخْتَرِعُ لِلْأَشْيَاءِ. وَمَنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى إِبْرَازِهَا مِنَ الْعَدَمِ الصِّرْفِ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْإِعَادَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ «١» وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ أَيْ: هَيِّنٌ عَلَيْهِ.

وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هَذِهِ الْآيَةُ تَوْبِيخٌ لِلْكَفَرَةِ، أَيْ: إِنْ تَعْجَبُ يَا مُحَمَّدُ مِنْ جَهَالَتِهِمْ وَإِعْرَاضِهِمْ عَنِ الْحَقِّ، فَهُمْ أَهْلٌ لِذَلِكَ، وَعَجِيبٌ وَغَرِيبٌ أَنْ تُنْكِرَ قُلُوبُهُمُ الْعَوْدَ بَعْدَ كَوْنِنَا خَلْقًا جَدِيدًا. وَيَحْتَمِلُ اللَّفْظُ مَنْزَعًا آخَرَ: إِنْ كُنْتَ تُرِيدَ عَجَبًا فَهَلُمَّ، فَإِنَّ مِنْ أَعْجَبِ الْعَجَبِ قَوْلَهُمْ انْتَهَى. وَاخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ فِي الِاسْتِفْهَامَيْنِ إِذَا اجْتَمَعَا فِي أَحَدَ عَشَرَ مَوْضِعًا، هُنَا مَوْضِعٌ، وَكَذَا فِي الْمُؤْمِنِينَ، وَفِي الْعَنْكَبُوتِ، وَفِي النَّمْلِ، وَفِي السَّجْدَةِ، وَفِي الْوَاقِعَةِ، وَفِي وَالنَّازِعَاتِ، وَفِي بَنِي إِسْرَائِيلَ مَوْضِعَانِ، وَكَذَا فِي وَالصَّافَّاتِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَالْكِسَائِيُّ بِجَعْلِ الْأَوَّلِ اسْتِفْهَامًا، وَالثَّانِي خَبَرًا، إِلَّا فِي الْعَنْكَبُوتِ وَالنَّمْلِ بِعَكْسِ نَافِعٍ. وجمع


(١) سورة الروم: ٣٠/ ٢٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>