إنه تعالى محيط علمه بِأَقْوَالِ الْمُكَلَّفِينَ وَأَفْعَالِهِمْ، لَا يَعْزُبُ عَنْهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ. وَظَاهِرُ التَّقْسِيمِ يَقْتَضِي تَكْرَارَ مَنْ، لَكِنَّهُ حُذِفَ لِلْعِلْمِ بِهِ، إِذْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ: مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ، لَكِنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ، وَأَجَازَهُ الْكُوفِيُّونَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ:
وَسَارِبٌ، مَعْطُوفًا عَلَى مَنْ، لَا عَلَى مُسْتَخْفٍ، فَيَصِحُّ التَّقْسِيمُ. كَأَنَّهُ قِيلَ: سَوَاءٌ شَخْصٌ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ، وَشَخْصٌ هُوَ سَارِبٌ بِالنَّهَارِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى مستخف.
وأريد بمن اثْنَانِ، وَحَمَلَ عَلَى الْمَعْنَى فِي تَقْسِيمِ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ الَّذِي هُوَ هُوَ، وَعَلَى لَفْظِ مَنْ فِي إِفْرَادِ هُوَ. وَالْمَعْنَى: سَوَاءٌ اللَّذَانِ هُمَا مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَالسَّارِبُ بِالنَّهَارِ، هُوَ رَجُلٌ وَاحِدٌ يَسْتَخْفِي بِاللَّيْلِ وَيَسْرِبُ بِالنَّهَارِ، وَلِيَرَى تَصَرُّفَهُ فِي النَّاسِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فَهَذَا قِسْمٌ وَاحِدٌ، جَعَلَ اللَّهُ نَهَارَ رَاحَتِهِ. وَالْمَعْنَى: هَذَا وَالَّذِي أَمْرُهُ كُلُّهُ وَاحِدٌ بَرِيءٌ مِنَ الرَّيْبِ، سَوَاءٌ فِي اطِّلَاعِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْكُلِّ. وَيُؤَيِّدُ هَذَا التَّأْوِيلَ عَطْفُ السَّارِبِ دُونَ تَكْرَارِ مَنْ، وَلَا يَأْتِي حَذْفُهَا إِلَّا فِي الشِّعْرِ. وَتَحْتَمِلُ الْآيَةُ أَنْ تَتَضَمَّنَ ثَلَاثَةَ أَصْنَافٍ. فَالَّذِي يُسِرُّ طَرَفٌ، وَالَّذِي يَجْهَرُ طَرَفٌ مُضَادٌّ لِلْأَوَّلِ، وَالثَّالِثُ مُتَوَسِّطٌ مُتَلَوِّنٌ يَعْصِي بِاللَّيْلِ مُسْتَخْفِيًا وَيُظْهِرُ الْبَرَاءَةَ بِالنَّهَارِ انْتَهَى. وَقِيلَ: وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ بِظُلْمَتِهِ، يُرِيدُ إِخْفَاءَ عَمَلِهِ فِيهِ كَمَا قَالَ:
أَزُورُهُمْ وَسَوَادُ اللَّيْلِ يَشْفَعُ لِي. وَقَالَ:
وَكَمْ لِظَلَامِ اللَّيْلِ عِنْدِي مِنْ يَدٍ وَالظَّاهِرُ عَوْدُ الضَّمِيرِ فِي لَهُ عَلَى مَنْ، كَأَنَّهُ قِيلَ لِمَنْ أَسَرَّ، وَمَنْ جَهَرَ، وَمَنِ اسْتَخْفَى، وَمَنْ سَرَبَ: مُعَقِّبَاتٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ عَائِدٌ عَلَى مَنْ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ، وَكَذَلِكَ فِي بَاقِي الضَّمَائِرِ الَّتِي فِي الْآيَةَ.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْمُعَقِّبَاتُ عَلَى هَذَا حَرَسُ الرَّجُلِ وَجَلَاوِزَتُهُ الَّذِينَ يَحْفَظُونَهُ، قَالَ:
وَالْآيَةُ عَلَى هَذَا فِي الرُّؤَسَاءِ الْكَافِرِينَ. وَاخْتَارَ هَذَا الْقَوْلَ الطَّبَرِيُّ، وَهُوَ قَوْلُ عِكْرِمَةَ وَجَمَاعَةٍ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: هُوَ السُّلْطَانُ الْمُحْرَسُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ. وَذَكَرَ الْمَاوَرْدِيُّ أَنَّ الْكَلَامَ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ نَفَى تَقْرِيرَهُ لَا يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ انْتَهَى. وَحَذَفَ لَا، لَا فِي الْجَوَابِ قَسَمٌ بَعِيدٌ. قَالَ الَمَهَدَوِيُّ: وَمَنْ جَعَلَ الْمُعَقِّبَاتِ الْحَرَسَ فَالْمَعْنَى: يَحْفَظُونَهُ مِنَ اللَّهِ عَلَى ظَنِّهِ وَزَعْمِهِ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي لَهُ عَائِدٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى أَيْ: لِلَّهِ مُعَقِّبَاتٌ مَلَائِكَةٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيِ الْعَبْدِ وَمِنْ خَلْفِهِ، وَالْمُعَقِّبَاتُ عَلَى هَذَا الْمَلَائِكَةُ الْحَفَظَةُ عَلَى الْعِبَادِ وَأَعْمَالِهِمْ، وَالْحَفَظَةُ لَهُمْ أَيْضًا. وَرُوِيَ فِيهِ حَدِيثٌ عَنْ عُثْمَانَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَالنَّخَعِيِّ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي لَهُ عَائِدٌ عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ قَرِيبٌ، وَقَدْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute