يُؤَيِّدُ هَذَا التَّأْوِيلَ وَهُوَ
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَثَلُ مَا بُعِثْتُ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَصَابَ أَرْضًا وَكَانَتْ مِنْهَا طَائِفَةٌ طَيِّبَةٌ قَبِلَتِ الْمَاءَ وَأَنْبَتَتِ الْكَلَأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ وَكَانَتْ مِنْهَا طَائِفَةٌ أَجَادِبُ فَأَمْسَكَتِ الْمَاءَ فَانْتَفَعَ النَّاسُ بِهِ وَسَقَوْا وَرَعَوْا وَكَانَتْ مِنْهَا قِيعَانٌ لَا تُمْسِكُ مَاءً وَلَا تُنْبِتُ كَلَأً فَذَلِكَ مَثَلُ مَا جِئْتَ بِهِ مِنَ الْعِلْمِ وَالْهُدَى وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ»
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: قَوْلُهُ تَعَالَى أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً، يُرِيدُ بِهِ الشَّرْعَ وَالدِّينَ، فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ يُرِيدُ الْقُلُوبَ، أَيْ: أَخَذَ النَّبِيلُ بِحَظِّهِ، وَالْبَلِيدُ بِحَظِّهِ، وَهَذَا قَوْلٌ لَا يَصِحُّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، لِأَنَّهُ يَنْحُو إِلَى أَقْوَالِ أَصْحَابِ الرُّمُوزِ، وَقَدْ تَمَسَّكَ بِهِ الْغَزَالِيُّ وَأَهْلُ تِلْكَ الطَّرِيقِ، وَلَا تَوْجِيهَ لِإِخْرَاجِ اللَّفْظِ عَنْ مَفْهُومِ كَلَامِ الْعَرَبِ بِغَيْرِ عِلَّةٍ تَدْعُو إِلَى ذَلِكَ، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ. وَإِنَّ صَحَّ هَذَا الْقَوْلُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَإِنَّمَا قَصَدَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ، مَعْنَاهُ: الْحَقُّ الَّذِي يَتَقَرَّرُ فِي الْقُلُوبِ، وَالْبَاطِلُ الَّذِي يَعْتَرِيهَا أَيْضًا انْتَهَى. وَالْمَاءُ الْمَطَرُ. وَنَكَّرَ أَوْدِيَةٌ لِأَنَّ الْمَطَرَ إِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى طَرِيقِ الْمُنَاوَبَةِ، فَتَسِيلُ بَعْضُ الْأَوْدِيَةِ دُونَ بَعْضٍ. وَمَعْنَى بِقَدَرِهَا أَيْ: عَلَى قَدْرِ صِغَرِهَا وَكِبَرِهَا، أَوْ بِمَا قُدِّرَ لَهَا مِنَ الْمَاءِ بِسَبَبِ نَفْعِ الْمَمْطُورِ عَلَيْهِمْ لَا ضَرَرِهِمْ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ:
وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ، فَالْمَطَرُ مَثَلٌ لِلْحَقِّ، فَهُوَ نَافِعٌ خَالٍ مِنَ الضَّرَرِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِقَدَرِهَا بِفَتْحِ الدَّالِّ. وَقَرَأَ الْأَشْهَبُ الْعُقَيْلِيُّ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَأَبُو عَمْرٍو فِي رِوَايَةٍ: بِسُكُونِهَا. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: بِقَدَرِهَا متعلق بسالت. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: بِقَدَرِهَا صفة لأودية، وَعَرَّفَ السَّيْلَ لِأَنَّهُ عَنَى بِهِ مَا فُهِمَ مِنَ الْفِعْلِ، وَالَّذِي يَتَضَمَّنُهُ الْفِعْلُ مِنَ الْمَصْدَرِ هُوَ نَكِرَةٌ، فَإِذَا عَادَ عَلَيْهِ الظَّاهِرُ كَانَ مَعْرِفَةً، كَمَا كَانَ لَوْ صَرَّحَ بِهِ نَكِرَةً، وَلِذَلِكَ تَضَمَّنَ إِذَا عَادَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْفِعْلُ مِنَ الْمَصْدَرِ نَحْوَ: مَنْ كَذَّبَ كَانَ شَرًّا لَهُ أَيْ: كَانَ الْكَذِبُ شَرًّا لَهُ، وَلَوْ جَاءَ هُنَا مُضْمَرًا لَكَانَ جَائِزًا عَائِدًا عَلَى الْمَصْدَرِ الْمَفْهُومِ مِنْ فَسَالَتْ. وَاحْتَمَلَ بِمَعْنَى حَمَلَ، جَاءَ فِيهِ افْتَعَلَ بِمَعْنَى المجرد كاقتدر وقدر. ورابيا مُنْتَفِخًا عَالِيًا عَلَى وَجْهِ السَّيْلِ، وَمِنْهُ الرَّبْوَةُ. وَمِمَّا تُوقِدُونَ عَلَيْهِ أَيْ: وَمِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي تُوقِدُونَ عَلَيْهَا وَهِيَ الذَّهَبُ، وَالْفِضَّةُ، وَالْحَدِيدُ، وَالنُّحَاسُ، وَالرَّصَاصُ، وَالْقَصْدِيرُ، وَنَحْوُهَا مِمَّا يُوقَدُ عَلَيْهِ وَلَهُ زَبَدٌ.
وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَحَفْصٌ، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَطَلْحَةُ، وَيَحْيَى، وَأَهْلُ الْكُوفَةِ: يُوقِدُونَ بِالْيَاءِ عَلَى الْغَيْبَةِ، أَيْ يُوقِدُ النَّاسُ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ وَالْحَسَنُ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَالْأَعْرَجُ، وَشَيْبَةُ: بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ وَعَلَيْهِ مُتَعَلِّقٌ بتوقدون وفي النَّارِ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ، وَالْحَوْفِيُّ: مُتَعَلِّقٌ بِتُوقِدُونَ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: قَدْ يُوقَدُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَلَيْسَ فِي النَّارِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute