للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ: مَثَلُ الْجَنَّةِ أَيْ: صِفَتُهَا الَّتِي هِيَ فِي غَرَابَةِ الْمَثَلِ، وَارْتَفَعَ مَثَلُ عَلَى الِابْتِدَاءِ فِي مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ، وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ أَيْ: فِيمَا قَصَصْنَا عَلَيْكُمْ مَثَلُ الجنة، وتجري مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ تَفْسِيرٌ لِذَلِكَ الْمَثَلِ. تَقُولُ: مَثَّلْتُ الشَّيْءَ إِذَا وَصَفْتَهُ وَقَرَّبْتَهُ لِلْفَهْمِ، وَلَيْسَ هُنَا ضَرْبُ مَثَلٍ لَهَا فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى «١» أَيِ الصِّفَةُ الْعُلْيَا، وَأَنْكَرَ أَبُو عَلِيٍّ أَنْ يَكُونَ مَثَلُ بِمَعْنَى صِفَةٍ قَالَ: إِنَّمَا مَعْنَاهُ التَّنْبِيهُ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: أَيْ صِفَتُهَا أَنَّهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ، وَنَحْوُ هَذَا مَوْجُودٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ انْتَهَى. وَلَا يُمْكِنُ حَذْفُ أَنْهَا، وَإِنَّمَا فَسَّرَ الْمَعْنَى وَلَمْ يَذْكُرِ الْإِعْرَابَ. وَتَأَوَّلَ قَوْمٌ عَلَى الْقُرْآنِ مَثَلٌ مُقْحَمٌ، وَأَنَّ التَّقْدِيرَ: الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي، وَإِقْحَامُ الْأَسْمَاءِ لَا يَجُوزُ. وَحَكَوْا عَنِ الْفَرَّاءِ أَنَّ الْعَرَبَ تُقْحِمُ كَثِيرًا الْمَثَلَ وَالْمِثْلَ، وَخَرَجَ عَلَى ذَلِكَ: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ «٢» أَيْ: كَهُوَ شَيْءٌ. فَقَالَ غَيْرُهُمَا: الْخَبَرُ تَجْرِي، كَمَا تَقُولُ: صِفَةُ زَيْدٍ أَسْمَرُ، وَهَذَا أَيْضًا لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ تَجْرِي خَبَرًا عَنِ الصِّفَةِ، وَإِنَّمَا يُتَأَوَّلُ تَجْرِي عَلَى إِسْقَاطِ أَنْ وَرَفْعِ الْفِعْلِ، وَالتَّقْدِيرُ:

أَنْ تَجْرِيَ خَبَرٌ ثَانٍ الْأَنْهَارُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَاهُ مَثَلُ الْجَنَّةِ جَنَّةٌ تَجْرِي عَلَى حَذْفِ الْمَوْصُوفِ تَمْثِيلًا لِمَا غَابَ عَنَّا بِمَا نُشَاهِدُ انْتَهَى. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: لَا يَصِحُّ مَا قَالَ الزَّجَّاجُ، لَا عَلَى مَعْنَى الصِّفَةِ، وَلَا عَلَى مَعْنَى الشَّبَهِ، لِأَنَّ الْجَنَّةَ الَّتِي قَدَّرَهَا جَنَّةٌ وَلَا تَكُونُ الصِّفَةَ، وَلِأَنَّ الشَّبَهَ عِبَارَةٌ عَنِ الْمُمَاثَلَةِ الَّتِي بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ وَهُوَ حَدَثٌ، وَالْجَنَّةُ جَنَّةٌ فَلَا تَكُونُ الْمُمَاثَلَةُ.

وَقَرَأَ عَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ: مِثَالُ الْجَنَّةِ عَلَى الْجَمْعِ

أَيْ: صِفَاتُهَا. وَفِي الْلَوَامِحِ عَلَى السُّلَمِيِّ أَمْثَالُ الْجَنَّةِ جَمْعٌ، وَمَعْنَاهُ: صِفَاتُ الْجَنَّةِ. وَذَلِكَ لِأَنَّهَا صِفَاتٌ مُخْتَلِفَةٌ، فَلِذَلِكَ جُمِعَ نَحْوَ الْحُلْقُومِ وَالْإِسْعَالِ. وَالْأُكُلُ مَا يُؤْكَلُ فِيهَا، وَمَعْنَى دَوَامُهُ: أَنَّهُ لَا يَنْقَطِعُ أَبَدًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ «٣» وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ: أَيْ لَذَّاتُهُ دَائِمَةٌ لَا تُزَادُ بِجُوعٍ وَلَا تُمَلُّ مِنْ شِبَعٍ. وَظِلُّهَا أَيْ: دَائِمُ الْبَقَاءِ وَالرَّاحَةِ، لَا تَنْسَخُهُ شَمْسٌ، وَلَا يَمِيلُ لِبَرْدٍ كَمَا فِي الدُّنْيَا. أَيْ: تِلْكَ الْجَنَّةُ عَاقِبَةُ الَّذِينَ اتَّقَوْا أَيْ: اجْتَنَبُوا الشِّرْكَ.

وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ. وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ مَا جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ: نَزَلَتْ فِي مُؤْمِنِي أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ، ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ، وَاخْتَارَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فَقَالَ: مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْيَهُودِ كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ


(١) سورة الروم: ٣٠/ ٢٧.
(٢) سورة الشورى: ٤٢/ ١١.
(٣) سورة الواقعة: ٥٦/ ٣٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>