وَهُوَ كَوْنُ مَحَلِّ الْعَابِدِ آمِنًا لَا يَخَافُ فِيهِ، إِذْ يَتَمَكَّنُ مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ دَعَا ثَانِيًا بِأَنْ يُجَنَّبَ هُوَ وَبَنُوهُ مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ. وَمَعْنَى وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ: أَدِمْنِي وَإِيَّاهُمْ عَلَى اجْتِنَابِ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ. وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ: وَبَنِيَّ أَوْلَادَهُ، مِنْ صُلْبِهِ الْأَقْرِبَاءِ. وَأَجَابَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَجَعَلَ الْحَرَمَ آمِنًا، وَلَمْ يَعْبُدْ أَحَدٌ مِنْ بَنِيهِ الْأَقْرِبَاءِ لِصُلْبِهِ صَنَمًا. قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: وَقَدْ سُئِلَ، كَيْفَ عَبَدَتِ الْعَرَبُ الْأَصْنَامَ؟ قَالَ: مَا عَبَدَ أَحَدٌ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ صَنَمًا وَكَانُوا ثَمَانِيَةً، إِنَّمَا كَانَتْ لهم حجارة ينصبوها وَيَقُولُونَ: حَجَرٌ، فَحَيْثُ مَا نَصَبُوا حَجَرًا فَهُوَ بِمَعْنَى الْبَيْتِ، فَكَانُوا يَدُورُونَ بِذَلِكَ الْحَجَرِ وَيُسَمُّونَهُ الدُّوَارَ انْتَهَى.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا الدُّعَاءُ مِنَ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَقْتَضِي إِفْرَاطَ خَوْفِهِ عَلَى نَفْسِهِ، وَمَنْ حَصَلَ فِي رُتْبَتِهِ فَكَيْفَ يَخَافُ أَنْ يَعْبُدَ صَنَمًا؟ لَكِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ يَنْبَغِي أَنْ يُقْتَدَى بِهَا فِي الْخَوْفِ وَطَلَبِ الْخَاتِمَةِ. وَكَرَّرَ النِّدَاءَ اسْتِعْطَافًا لِرَبِّهِ تَعَالَى، وَذَكَرَ سَبَبَ طَلَبِهِ: أَنْ يُجَنَّبَ هُوَ وَبَنُوهُ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ بِقَوْلِهِ: إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ، إِذْ قَدْ شَاهَدَ أَبَاهُ وَقَوْمَهُ يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ. وَمَعْنَى أَضْلَلْنَا: كُنَّا سَبَبًا لِإِضْلَالِ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ ضَلُّوا بِعِبَادَتِهَا، كَمَا تَقُولُ: فِتْنَتُهُمُ الدُّنْيَا أَيِ: افْتَتَنُوا بِهَا، وَاغْتَرُّوا بِسَبَبِهَا. وَقَرَأَ الْجَحْدَرِيُّ، وَعِيسَى الثَّقَفِيُّ: وَأَجْنِبْنِي مِنْ أَجْنَبَ، وَأَنَّثَ الْأَصْنَامَ لِأَنَّهُ جَمْعُ مَا لَا يَعْقِلُ يُخْبِرُ عَنْهُ أَخْبَارَ الْمُؤَنَّثِ كَمَا تَقُولُ: الْأَجْذَاعُ انْكَسَرَتْ. وَالْإِخْبَارُ عَنْهُ إِخْبَارُ جَمْعِ الْعَاقِلِ الْمُذَكَّرِ بِالْوَاوِ وَمَجَازٍ نَحْوَ قَوْلِهِ: فَقَدْ ضَلُّوا كَثِيرًا. فَمَنْ تَبِعَنِي أَيْ: عَلَى دِينِي وَمَا أَنَا عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ مِنِّي. جَعَلَهُ لِفَرْطِ الِاخْتِصَاصِ بِهِ وَمُلَابَسَتِهِ
كَقَوْلِهِ: «مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا»
أَيْ لَيْسَ بَعْضُ الْمُؤْمِنِينَ تَنْبِيهًا عَلَى تَعْظِيمِ الْغِشِّ بِحَيْثُ هُوَ يَسْلُبُ الْغَاشَّ الْإِيمَانَ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْغِشَّ لَيْسَ مِنْ أَوْصَافِ أَهْلِ الْإِيمَانِ. وَمَنْ عَصَانِي، هَذَا فِيهِ طِبَاقٌ مَعْنَوِيٌّ، لِأَنَّ التَّبَعِيَّةَ طَاعَةٌ فَقَوْلُهُ: فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
قَالَ مُقَاتِلٌ: وَمَنْ عَصَانِي فَيُحَادُّونَ الشِّرْكَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: تَغْفِرُ لِي مَا سَلَفَ مِنَ الْعِصْيَانِ إِذَا بَدَا لِي فِيهِ وَاسْتَحْدَثَ الطَّاعَةَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَمَنْ عَصَانِي ظَاهِرُهُ بِالْكُفْرِ لِمُعَادَلَةِ قَوْلِهِ: فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَوْلُهُ: فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ مَعْنَاهُ حِين يُؤْمِنُوا، لِأَنَّهُ أَرَادَ أَنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ لِكُلِّ كَافِرٍ، لَكِنَّهُ حَمَلَهُ عَلَى هَذِهِ الْعِبَارَةِ مَا كَانَ يَأْخُذُ نَفْسَهُ بِهِ مِنَ الْقَوْلِ الْجَمِيلِ وَالنُّطْقِ الْحَسَنِ وَجَمِيلِ الْأَدَبِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَكَذَلِكَ قَالَ نَبِيُّ اللَّهِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ «١» .
(١) سورة المائدة: ٥/ ١١٨.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute