للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

السَّماءِ. الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ. رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ. رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ: كَرَّرَ النِّدَاءَ لِلتَّضَرُّعِ وَالِالْتِجَاءِ، وَلَا يَظْهَرُ تَفَاوُتٌ بَيْنَ إِضَافَةِ رَبٍّ إِلَى يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ، وَبَيْنَ إِضَافَتِهِ إِلَى جَمْعِ الْمُتَكَلِّمِ، وَمَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ عَامٌّ فِيمَا يُخْفُونَهُ وَمَا يُعْلِنُونَهُ. وَقِيلَ: مَا نُخْفِي مِنَ الْوَجْدِ لِمَا وَقَعَ بَيْنَنَا مِنَ الْفُرْقَةِ، وَمَا نُعْلِنُ مِنَ الْبُكَاءِ وَالدُّعَاءِ.

وَقِيلَ: مَا نُخْفِي مِنْ كَآبَةِ الِافْتِرَاقِ، وَمَا نُعْلِنُ مِمَّا جَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ هَاجَرَ حِينَ قَالَتْ لَهُ عِنْدَ الْوَدَاعِ: إِلَى مَنْ تَكِلُنَا؟ قَالَ: إِلَى اللَّهِ أَكِلُكُمْ. قَالَتْ: آللَّهُ أَمْرَكَ بِهَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَتْ:

لَا نَخْشَى تَرَكْتَنَا إِلَى كَافٍ.

وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ، مِنْ كَلَامِ إِبْرَاهِيمَ لِاكْتِنَافِ مَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ بِكَلَامِ إِبْرَاهِيمَ. لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ تَعَالَى عَمَّمَ مَا يَخْفَى هُوَ وَمَنْ كَنَّى عَنْهُ، تَمَّمَ جَمِيعَ الْأَشْيَاءِ، وَأَنَّهَا غَيْرُ خَافِيَةٍ عَنْهُ تَعَالَى. وَقِيلَ:

وَمَا يَخْفَى الْآيَةِ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ تَصْدِيقًا لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ «١» وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ الْجُمَلَ الَّتِي تَكَلَّمَ بِهَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ تَقَعْ مِنْهُ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ، وَإِنَّمَا حَكَى اللَّهُ عَنْهُ مَا وَقَعَ فِي أَزْمَانٍ مُخْتَلِفَةٍ، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ إِسْحَاقَ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا حَالَةَ دُعَائِهِ، إِذْ تَرَكَ هاجر والطفل بِمَكَّةَ. فَالظَّاهِرُ أَنَّ حَمْدَهُ اللَّهَ تَعَالَى عَلَى هِبَةِ وَلَدَيْهِ لَهُ كَانَ بَعْدَ وُجُودِ إِسْحَاقَ، وَعَلَى الْكِبَرِ يَدُلُّ عَلَى مُطْلَقِ الْكِبَرِ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِتَعْيِينِ الْمُدَّةِ الَّتِي وُهِبَ لَهُ فِيهَا وَلَدَاهُ.

وَرُوِيَ أَنَّهُ وُلِدَ لَهُ إِسْمَاعِيلُ وَهُوَ ابْنُ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً، وَوُلِدَ لَهُ إِسْحَاقُ وَهُوَ ابْنُ مِائَةٍ وَثِنْتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً.

وَقِيلَ: إِسْمَاعِيلُ لِأَرْبَعٍ وَسِتِّينَ، وَإِسْحَاقُ لِتِسْعِينَ. وَعَنِ ابْنِ جُبَيْرٍ: لَمْ يُولَدْ لَهُ إِلَّا بَعْدَ مِائَةٍ وَسَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً. وَإِنَّمَا ذَكَرَ حَالَ الْكِبَرِ لِأَنَّ الْمِنَّةَ فِيهَا بِهِبَةِ الْوَلَدِ أَعْظَمُ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْكِبَرَ مَظِنَّةُ الْيَأْسِ مِنَ الْوَلَدِ، فَإِنَّ مَجِيءَ الشَّيْءِ بَعْدَ الْإِيَاسِ أَحْلَى فِي النَّفْسِ وَأَبْهَجُ لَهَا. وَعَلَى الْكِبَرِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ لِأَنَّهُ قال: وأنا كبير، وعلى عَلَى بَابِهَا مِنَ الِاسْتِعْلَاءِ لَكِنَّهُ مَجَازٌ، إِذِ الْكِبَرُ مَعْنَى لَا جَرَمَ يَتَكَوَّنُ، وَكَأَنَّهُ لَمَّا أَسَنَّ وَكَبِرَ صَارَ مُسْتَعْلِيًا عَلَى الْكِبَرِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: عَلَى فِي قَوْلِهِ عَلَى الْكِبَرِ بِمَعْنَى مَعَ، كَقَوْلِهِ:

إِنِّي عَلَى مَا تَرَيْنَ مِنْ كِبَرِي ... أَعْلَمُ مِنْ حَيْثُ يُؤْكَلُ الْكَتِفُ

وَكَنَّى بِسَمِيعِ الدُّعَاءِ عَنِ الْإِجَابَةِ وَالتَّقَبُّلِ، وَكَانَ قَدْ دَعَا اللَّهَ أَنْ يهبه ولدا بقوله:


(١) سُورَةِ الشُّعَرَاءِ: ٢٦/ ٧٤. [.....]

<<  <  ج: ص:  >  >>