وَذَكَرَ تَعَالَى الْمَقَرَّ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْهُ الشَّرَابُ وَهُوَ بُطُونُهَا، وَهُوَ مَبْدَأُ الْغَايَةِ الْأُولَى، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهَا وَهُوَ مَبْدَأُ الْغَايَةِ الْأَخِيرَةِ وَلِذَلِكَ قال الحريري:
تقل هَذَا مُجَاجُ النَّحْلِ تَمْدَحُهُ ... وَإِنْ ذَمَمْتَ تَقُلْ قَيْءَ الزَّنَابِيرِ
وَالْمُجَاجُ وَالْقَيْءُ لَا يَكُونَانِ إِلَّا مِنَ الْفَمِ.
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ أَنَّهُ قَالَ فِي تَحْقِيرِ الدُّنْيَا: أَشْرَفُ لِبَاسِ ابْنِ آدَمَ فِيهَا لُعَابُ دُودَةٍ، وَأَشْرَفَ شَرَابِهِ رَجِيعُ نَحْلَةٍ.
وَعَنْهُ أَيْضًا: أَمَّا الْعَسَلُ فَوَنِيمُ ذُبَابٍ
، فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّ الْعَسَلَ يَخْرُجُ مِنْ غَيْرِ الْفَمِ، وَقَدْ خَفِيَ مِنْ أَيِّ الْمَخْرَجَيْنِ يَخْرُجُ، أَمِنَ الْفَمِ؟ أَمْ مِنْ أَسْفَلُ؟
وَحُكِيَ أَنَّ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالْإِسْكَنْدَرَ، وَأَرِسْطَاطَالِيسَ، صَنَعُوا لَهَا بُيُوتًا مِنْ زُجَاجٍ لِيَنْظُرُوا إِلَى كَيْفِيَّةِ صُنْعِهَا، وَهَلْ يَخْرُجُ الْعَسَلُ مِنْ فِيهَا أَمْ مِنْ أَسْفَلِهَا؟ فَلَمْ تَضَعْ مِنَ الْعَسَلِ شَيْئًا حَتَّى لَطَّخَتْ بَاطِنَ الزُّجَاجِ بِالطِّينِ بِحَيْثُ يَمْنَعُ الْمُشَاهَدَةَ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: لُبَابُ الْبُرِّ بِلُعَابِ النَّحْلِ بِخَالِصِ السَّمْنِ مَا عَابَهُ مُسْلِمٌ، فَجَعَلَهُ لُعَابًا كَالرِّيقِ الدَّائِمِ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْ فَمِ ابْنِ آدَمَ. وَقِيلَ: مِنْ بُطُونِهَا مِنْ أَفْوَاهِهَا، سَمَّى الْفَمَ بَطْنًا لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْبَطْنِ، وَلِأَنَّهُ مِمَّا يَبْطَنُ وَلَا يَظْهَرُ. وَاخْتِلَافُ أَلْوَانِهِ بِالْبَيَاضِ وَالصُّفْرَةِ وَالْحُمْرَةِ وَالسَّوَادِ، وَذَلِكَ لِاخْتِلَافِ طِبَاعِ النَّحْلِ، وَاخْتِلَافِ الْمَرَاعِي. وَقَدْ يَخْتَلِفُ طَعْمُهُ لِاخْتِلَافِ الْمَرْعَى كَمَا
فِي الْحَدِيثِ «جَرَسَتْ نَحْلُهُ الْعَرْفَطَ»
وَقِيلَ: الْأَبْيَضُ تُلْقِيهِ شَبَابُ النَّحْلِ، وَالْأَصْفَرُ كُهُولُهَا، وَالْأَحْمَرُ شَبِيبُهَا. وَالظَّاهِرُ عَوْدُ الضَّمِيرِ فِيهِ إِلَى الشَّرَابِ وَهُوَ الْعَسَلُ، لِأَنَّهُ شِفَاءٌ مِنْ جُمْلَةِ الْأَشْفِيَةِ وَالْأَدْوِيَةِ الْمَشْهُورَةِ النَّافِعَةِ. وَقَلَّ مَعْجُونٌ مِنَ الْمَعَاجِينِ لَمْ يَذْكُرِ الْأَطِبَّاءُ فِيهِ الْعَسَلَ، وَالْعَسَلُ مَوْجُودٌ كَثِيرٌ فِي أَكْثَرِ الْبُلْدَانِ. وَأَمَّا السَّكَرُ فَمُخْتَصٌّ بِهِ بَعْضُ الْبِلَادِ وَهُوَ مُحْدَثٌ، وَلَمْ يَكُنْ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَزْمَانِ يُجْعَلُ فِي الْأَشْرِبَةِ وَالْأَدْوِيَةِ إِلَّا الْعَسَلَ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالنَّاسِ هُنَا الْعُمُومَ، لِأَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَمْرَاضِ لَا يَدْخُلُ فِي دَوَائِهَا الْعَسَلُ، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى لِلنَّاسِ الَّذِي يُنْجَعُ الْعَسَلُ فِي أَمْرَاضِهِمْ. وَنَكَّرَ شِفَاءً إِمَّا لِلتَّعْظِيمِ فَيَكُونُ الْمَعْنَى فِيهِ شِفَاءٌ أَيْ شِفَاءٌ، وَإِمَّا لِدَلَالَتِهِ عَلَى مُطْلَقِ الشِّفَاءِ أَيْ: فِيهِ بَعْضُ الشِّفَاءِ.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ، وَمُجَاهِدٌ، وَالضَّحَّاكِ، وَالْفَرَّاءِ، وَابْنِ كَيْسَانَ: أَنَّ الضَّمِيرُ فِي فِيهِ عَائِدٌ عَلَى الْقُرْآنِ، أَيْ: فِي الْقُرْآنِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ أَيْ: فِيمَا قَصَصْنَا عَلَيْكُمْ مِنَ الْآيَاتِ وَالْبَرَاهِينِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ: أَرَى هَذَا الْقَوْلَ لَا يَصِحُّ نَقْلُهُ عَنْ هَؤُلَاءِ، وَلَوْ صَحَّ نَقْلًا لَمْ يَصِحَّ عَقْلًا فَإِنَّ سِيَاقَ الْكَلَامِ كُلِّهِ لِلْعَسَلِ لَيْسَ لِلْقُرْآنِ فِيهِ ذِكْرٌ، وَلَمَّا كَانَ أَمْرُ النِّحَلِ عَجِيبًا فِي بِنَائِهَا تِلْكَ الْبُيُوتَ