للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فِي عَشْوَاءَ حَالِكَةَ الْجِلْبَابِ، وَتَخْطُرُ، مِنْ غَلَوَائِهَا وَعُلُوِّهَا، فِي حُلَّتَيْ كِبْرٍ وَإِعْجَابٍ. فَلَمَّا أُمِرُوا بِأَخْذِ التَّوْرَاةِ، وَرَأَوْا مَا فِيهَا مِنْ أَثْقَالِ التَّكَالِيفِ، ثَارَتْ نُفُوسُهُمُ الْآبِيَةُ، فَرَفَعَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَبَلَ، فَوَجَدُوهُ أَثْقَلَ مِمَّا كُلِّفُوهُ، فَهَانَ عَلَيْهِمْ حَمْلُ التَّوْرَاةِ مَعَ مَا فِيهَا مِنَ التَّكْلِيفِ وَالنَّصَبِ، إِذْ ذَاكَ أَهْوَنُ مِنَ الْهَلَاكِ، قَالَ الشَّاعِرُ:

إِلَى اللَّهِ يُدْعَى بِالْبَرَاهِينِ مَنْ أَبَى ... فَإِنْ لَمْ يُجِبْ نَادَتْهُ بِيضُ الصَّوَارِمِ

وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ اللَّامُ فِي لَقَدْ: هِيَ لَامُ تَوْكِيدٍ، وَتُسَمَّى: لَامُ الِابْتِدَاءِ فِي نَحْوِ: لَزَيْدٌ قَائِمٌ. وَمِنْ أَحْكَامِهَا: أَنَّ مَا كَانَ فِي حَيِّزِهَا لَا يَتَقَدَّمُ عَلَيْهَا، إِلَّا إِذَا دَخَلَتْ عَلَى خَبَرِ إِنَّ عَلَى مَا قُرِّرَ فِي النَّحْوِ. وَقَدْ صَنَّفَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ كِتَابًا فِي اللَّامَاتِ ذَكَرَهَا فِيهِ وَأَحْكَامَهَا. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ جَوَابًا لِقِسْمٍ مَحْذُوفٍ، وَلَكِنَّهُ جِيءَ عَلَى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ، لِأَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْقِصَّةِ يُمْكِنُ أَنْ يَبْهَتُوا فِي إِنْكَارِهَا، وَذَلِكَ لَمَّا نَالَ فِي عُقْبَى أُولَئِكَ الْمُعْتَدِينَ مِنْ مَسْخِهِمْ قِرَدَةً، فَاحْتِيجَ فِي ذَلِكَ إِلَى تَوْكِيدٍ، وَأَنَّهُمْ عَلِمُوا ذَلِكَ حَقِيقَةً. وَعَلِمَ هُنَا كَعَرَفَ، فَلِذَلِكَ تَعَدَّتْ إِلَى وَاحِدٍ. وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُمْ عَلِمُوا أَعْيَانَ الْمُعْتَدِينَ، وَقَدَّرَهُ بَعْضُهُمْ: عَلِمْتُمْ أَحْكَامَ الَّذِينَ، وَقَدَّرَهُ بَعْضُهُمْ: اعْتِدَاءَ الَّذِينَ. وَالِاعْتِدَاءُ كَانَ عَلَى مَا نُقِلَ مِنْ أَنَّ مُوسَى أَمَرَهُ اللَّهُ بِصَوْمِ يَوْمِ الْجُمُعَةَ، وَعَرَّفَهُ فَضْلَهُ، كَمَا أَمَرَ بِهِ سَائِرَ الْأَنْبِيَاءِ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، وَأَمَرَهُمْ بِالتَّشَرُّعِ فِيهِ، فَأَبَوْهُ وَتَعَدَّوْهُ إِلَى يَوْمِ السَّبْتِ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى مُوسَى: أَنْ دَعْهُمْ وَمَا اخْتَارُوهُ. وَامْتَحَنَهُمْ فِيهِ، بِأَنْ أَمَرَهُمْ بِتَرْكِ الْعَمَلِ، وَحَرَّمَ عَلَيْهِمْ فِيهِ صَيْدَ الْحِيتَانِ. فَكَانَتْ تَأْتِي يَوْمَ السَّبْتِ حَتَّى تَخْرُجَ إِلَى الْأَفْنِيَةِ، قَالَهُ الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ، وَقِيلَ: حَتَّى تُخْرِجَ خَرَاطِيمَهَا مِنَ الْمَاءِ، وَكَانَ أَمْرُ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِأَيْلَةَ عَلَى الْبَحْرِ، فَإِذَا ذَهَبَ السَّبْتُ ذَهَبَتِ الْحِيتَانُ، فَلَمْ يَظْهَرُوا لِلسَّبْتِ الْآخَرِ. فَبَقُوا عَلَى ذَلِكَ زَمَانًا حَتَّى اشْتَهَوُا الْحُوتَ، فَعَمَدَ رَجُلٌ يَوْمَ السَّبْتِ، فَرَبَطَ حُوتًا بِخَزَمَةٍ، وَضَرَبَ لَهُ وَتَدًا بِالسَّاحِلِ. فَلَمَّا ذَهَبَ السَّبْتُ، جَاءَ فَأَخَذَهُ فَسَمِعَ قَوْمٌ بِفِعْلِهِ، فَصَنَعُوا مِثْلَ مَا صَنَعَ، وَقِيلَ: بَلْ حَفَرَ رَجُلٌ فِي غَيْرِ السَّبْتِ حَفِيرًا يَخْرُجُ إِلَيْهِ الْبَحْرُ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ السَّبْتِ، خَرَجَ الْحُوتُ وَحَصَلَ فِي الْحَفِيرَةِ، فَإِذَا جَزَرَ الْبَحْرُ، ذَهَبَ الْمَاءُ مِنْ طَرِيقِ الْحَفِيرَةِ وَبَقِيَ الْحُوتُ، فَجَاءَ بَعْدَ السَّبْتِ فَأَخَذَهُ. فَفَعَلَ قَوْمٌ مِثْلَ فِعْلِهِ. وَكَثُرَ ذَلِكَ، حَتَّى صَادُوهُ يَوْمَ السَّبْتِ عَلَانِيَةً وَبَاعُوهُ فِي الْأَسْوَاقِ. فَكَانَ هَذَا مِنْ أَعْظَمِ الِاعْتِدَاءِ. وَقَدْ رُوِيَتْ زِيَادَاتٌ فِي كَيْفِيَّةِ الِاعْتِدَاءِ، اللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّةِ ذَلِكَ. وَالَّذِي يَصِحُّ فِي ذَلِكَ هُوَ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، وَمَا صَحَّ عَنْ نَبِيِّهِ.

مِنْكُمْ: فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، فَيَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: كَائِنِينَ مِنْكُمْ، وَمِنْ: لِلتَّبْعِيضِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>