فِيهِ تَخْتَلِفُونَ
:
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي حَدِيثٍ فِيهِ طُولٌ مِنْهُ: إِنَّ عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ كَانَ جَلِيسَ النبي صلى الله عليه وَسَلَّمَ وَقْتًا فَقَالَ لَهُ: عُثْمَانُ مَا رَأَيْتُكَ تَفْعَلُ فِعْلَتَكَ الْغَدَاةَ؟ قَالَ: «وَمَا رَأَيْتَنِي فَعَلْتُ؟» قَالَ: شَخَصَ بَصَرُكَ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ وَضَعْتَهُ عَلَى يَمِينِك فَتَحَرَّفْتَ عَنِّي إِلَيْهِ وَتَرَكْتَنِي، فَأَخَذْتَ تَنْغُضُ رَأْسَكَ كَأَنَّكَ تَسْتَفِقْهُ شَيْئًا يُقَالُ لَكَ قَالَ: أو فطنت لِذَلِكَ؟ أَتَانِي رَسُولُ اللَّهِ آنِفًا وَأَنْتَ جَالِسٌ قَالَ: فَمَاذَا قَالَ لَكَ: قَالَ لِي: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ الْآيَةَ.
قَالَ عُثْمَانُ: فَذَلِكَ حِينَ اسْتَقَرَّ الْإِيمَانُ فِي قَلْبِي، فَأَحْبَبْتُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما ذكر الله تعالى.
وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ، وَصَلَ بِهِ مَا يَقْتَضِي التَّكَالِيفَ فَرْضًا وَنَفْلًا وَأَخْلَاقًا وَآدَابًا. وَالْعَدْلُ فِعْلُ كُلِّ مَفْرُوضٍ مِنْ عَقَائِدَ، وَشَرَائِعَ، وَسَيْرٍ مَعَ النَّاسِ فِي أَدَاءِ الْأَمَانَاتِ، وَتَرْكِ الظُّلْمِ وَالْإِنْصَافُ، وَإِعْطَاءُ الْحَقِّ وَالْإِحْسَانُ فِعْلُ كُلِّ مَنْدُوبٍ إِلَيْهِ قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْعَدْلُ هُوَ الْوَاجِبُ، لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ عَدَلَ فِيهِ عَلَى عِبَادِهِ، فَجَعَلَ مَا فَرَضَهُ عَلَيْهِمْ وَاقِعًا تَحْتَ طَاقَتِهِمْ. وَالْإِحْسَانُ النَّدْبُ، وَإِنَّمَا عُلِّقَ أَمْرُهُ بِهِمْ جَمِيعًا، لِأَنَّ الْفَرْضَ لَا بُدَّ أَنْ يَقَعَ فِيهِ تَفْرِيطٌ فَيَجْبُرُهُ النَّدْبُ انْتَهَى. وَفِي قَوْلِهِ: تَحْتَ طَاقَتِهِمْ، نَزْغَةُ الِاعْتِزَالِ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْعَدْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَالْإِحْسَانُ أَدَاءُ الْفَرَائِضِ. وَعَنْهُ أَيْضًا أَنَّ الْعَدْلَ هُوَ الْحَقُّ. وَعَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ: أَنَّهُ أسوأ السَّرِيرَةِ وَالْعَلَانِيَةِ فِي الْعَمَلِ. وَذَكَرَ الْمَاوَرْدِيُّ أَنَّهُ الْقَضَاءُ بِالْحَقِّ قَالَ تَعَالَى: وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ «١» وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ:
الْعَدْلُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ الْإِنْصَافُ. وَقِيلَ: خَلْعُ الْأَنْدَادِ. وَقِيلَ: الْعَدْلُ فِي الْأَفْعَالِ وَالْإِحْسَانُ فِي الْأَقْوَالِ. وَإِيتَاءُ ذِي الْقُرْبَى: هُوَ صِلَةُ الرَّحِمِ، وَهُوَ مُنْدَرِجٌ تَحْتَ الْإِحْسَانِ، لَكِنَّهُ نُبِّهَ عَلَيْهِ اهْتِمَامًا بِهِ وَحَضًّا عَلَى الْإِحْسَانِ إِلَيْهِ. وَالْفَحْشَاءُ: الزِّنَا، أَوْ مَا شُنْعَتُهُ ظَاهِرَةٌ مِنَ الْمَعَاصِي.
وَفَاعِلُهَا أَبَدًا مُسْتَتِرٌ بِهَا، أَوِ الْقَبِيحُ مِنْ فِعْلٍ أَوْ قَوْلٍ، أَوِ الْبُخْلُ، أَوْ مُوجَبُ الْحَدِّ فِي الدُّنْيَا وَالْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ، أَوْ مُجَاوَزَةُ حُدُودِ اللَّهِ أَقْوَالٌ، أَوَّلُهَا لِابْنِ عَبَّاسٍ. وَالْمُنْكَرُ: الشِّرْكُ عَنْ مُقَاتِلٍ، أَوْ مَا وُعِدَ عَلَيْهِ بِالنَّارِ عَنِ ابْنِ السَّائِبِ، أَوْ مُخَالَفَةُ السَّرِيرَةِ لِلْعَلَانِيَةِ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، أَوْ مَا لَا يُوجِبُ الْحَدَّ فِي الدُّنْيَا لَكِنَّ الْعَذَابَ فِي الْآخِرَةِ. أَوْ مَا تُنْكِرُهُ الْعُقُولُ أَقْوَالٌ، وَيَظْهَرُ أَنَّهُ أَعَمُّ مِنَ الْفَحْشَاءِ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى الْمَعَاصِي وَالرَّذَائِل وَالْبَغْيِ: التَّطَاوُلُ بِالظُّلْمِ وَالسِّعَايَةِ فِيهِ، وَهُوَ دَاخِلٌ فِي الْمُنْكَرِ، وَنَبَّهَ عَلَيْهِ اهْتِمَامًا بِاجْتِنَابِهِ. وَجَمَعَ فِي الْمَأْمُورِ بِهِ وَالْمَنْهِيِّ عَنْهُ بَيْنَ مَا يَجِبُ وَيُنْدَبُ، وَمَا يَحْرُمُ وَيُكْرَهُ، لِاشْتِرَاكِ ذَلِكَ فِي قَدْرٍ مُشْتَرَكٍ وَهُوَ الطَّلَبُ فِي الْأَمْرِ، وَالتَّرْكُ فِي النهي.
(١) سورة النساء: ٤/ ٥٨.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute