للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كَالْبَحِيرَةِ، وَالسَّائِبَةِ، وَفِيمَا أَحَلَّ كَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ، وَذَكَرَ تَعَالَى تَحْرِيمَ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ. وَهَذِهِ السُّورَةِ وَهُمَا مَكِّيَّتَانِ بِأَدَاةِ الْحَصْرِ، ثُمَّ كَذَلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَالْمَائِدَةِ بِقَوْلِهِ:

أُحِلَّتْ لَكُمْ «١» الْآيَةَ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ: مَنْ إِلَّا مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ «٢» هُوَ قَوْلُهُ:

حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ «٣» الْآيَةَ وَهُمَا مَدَنِيَّتَانِ فَكَانَ هَذَا التَّحْرِيمُ لِهَذِهِ الْأَرْبَعِ مُشَرَّعًا ثَانِيًا فِي أَوَّلِ مَكَّةَ وَآخِرِهَا، وَأَوَّلِ الْمَدِينَةِ وَآخِرِهَا. فَنَهَى تَعَالَى أَنْ يُحَرِّمُوا وَيُحِلُّوا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ، وَيَفْتَرُونَ بِذَلِكَ عَلَى اللَّهِ حَيْثُ يَنْسُبُونَ ذَلِكَ إِلَيْهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ الْكَذِبَ بِفَتْحِ الْكَافِ وَالْبَاءِ وَكَسْرِ الذَّالِ، وَجَوَّزُوا فِي مَا فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى الَّذِي، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: لِلَّذِي تَصِفُهُ أَلْسِنَتُكُمْ. وَانْتَصَبَ الْكَذِبَ عَلَى أَنَّهُ مَعْمُولٌ لِتَقُولُوا أَيْ: وَلَا تَقُولُوا الْكَذِبَ لِلَّذِي تَصِفُهُ أَلْسِنَتُكُمْ مِنَ الْبَهَائِمِ بِالْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ، مِنْ غَيْرِ اسْتِنَادِ ذَلِكَ الْوَصْفِ إِلَى الْوَحْيِ. وَهَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ بَدَلٌ مِنَ الْكَذِبِ، أَوْ عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ أَيْ: فَتَقُولُوا هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ. وَأَجَازَ الْحَوْفِيُّ وَأَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَكُونَ انْتِصَابُ الْكَذِبِ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنَ الضَّمِيرُ الْمَحْذُوفُ الْعَائِدُ عَلَى مَا، كَمَا تَقُولُ: جَاءَنِي الَّذِي ضَرَبْتُ أَخَاكَ، أَي ضَرَبْتَهُ أَخَاكَ. وَأَجَازَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا بِإِضْمَارِ أَعْنِي. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ وَالزَّجَّاجُ: مَا مَصْدَرِيَّةٌ، وَانْتَصَبَ الْكَذِبُ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ أَيْ: لِوَصْفِ أَلْسِنَتِكُمُ الْكَذِبَ. وَمَعْمُولُ: وَلَا تَقُولُوا، الْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ، وَالْمَعْنَى: وَلَا تُحَلِّلُوا وَلَا تُحَرِّمُوا لِأَجْلِ قَوْلٍ تَنْطِقُ بِهِ أَلْسِنَتُكُمْ كَذِبًا، لَا بِحُجَّةٍ وَبَيِّنَةٍ. وَهَذَا مَعْنًى بَدِيعٌ، جَعَلَ قَوْلَهُمْ: كَأَنَّهُ عَيْنُ الْكَذِبِ وَمَحْضُهُ، فَإِذَا نَطَقَتْ بِهِ أَلْسِنَتُهُمْ فَقَدْ جلت الْكَذِبَ بِحِلْيَتِهِ وَصُورَتَهُ بِصُورَتِهِ كَقَوْلِهِمْ: وَجْهُهُ يَصِفُ الْجَمَالَ، وَعَيْنُهَا تَصِفُ السِّحْرَ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَابْنُ يَعْمُرَ، وَطَلْحَةُ، وَالْأَعْرَجُ، وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، وَابْنُ عُبَيْدٍ، وَنُعَيْمُ بْنُ مَيْسَرَةَ: بِكَسْرِ الْبَاءِ، وَخُرِّجَ عَلَى أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْ مَا، وَالْمَعْنَى الَّذِي: تَصِفُهُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ. وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَغَيْرُهُ أَنْ يَكُونَ الكذب بالجر صفة لما الْمَصْدَرِيَّةِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَأَنَّهُ قِيلَ: لِوَصْفِهَا الْكَذِبَ بِمَعْنَى الْكَاذِبِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: بِدَمٍ كَذِبٍ «٤» وَالْمُرَادُ بِالْوَصْفِ وَصْفُهَا الْبَهَائِمَ بِالْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ انْتَهَى. وَهَذَا عِنْدِي لَا يَجُوزُ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ نَصُّوا عَلَى أَنَّ أَنِ الْمَصْدَرِيَّةِ لَا يُنْعَتُ الْمَصْدَرُ الْمُنْسَبِكِ مِنْهَا وَمِنَ الْفِعْلِ، وَلَا يُوجَدُ مِنْ كَلَامِهِمْ: يُعْجِبُنِي أَنْ قُمْتَ السَّرِيعَ، يُرِيدُ قِيَامَكَ السَّرِيعَ، وَلَا عَجِبْتُ مِنْ أَنْ تَخْرُجَ السَّرِيعَ أَيْ: مِنْ خُرُوجِكَ السَّرِيعِ. وَحُكْمُ باقي


(١) سورة المائدة: ٥/ ١.
(٢) سورة المائدة: ٥/ ١.
(٣) سورة المائدة: ٥/ ٣.
(٤) سورة يوسف: ١٢/ ١٨.

<<  <  ج: ص:  >  >>