فِيهِ: أَنَّهُمْ أَحَلُّوا الصَّيْدَ فِيهِ تَارَةً وَحَرَّمُوهُ تَارَةً، وَكَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَتَّفِقُوا فِي تَحْرِيمِهِ عَلَى كلمة واحدة بعد ما حَتَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الصَّبْرَ عَنِ الصَّيْدِ فِيهِ، وَالْمَعْنَى فِي ذِكْرِ ذَلِكَ نَحْوَ الْمَعْنَى فِي ضَرْبِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ مَثَلًا، وَغَيْرِ مَا ذُكِرَ وَهُوَ الْإِنْذَارُ مِنْ سُخْطِ اللَّهِ عَلَى الْعُصَاةِ وَالْمُخَالِفِينَ لِأَوَامِرِهِ وَالْخَالِعِينَ رِبْقَةَ طَاعَتِهِ.
(فَإِنْ قُلْتَ) : فَمَا مَعْنَى الْحُكْمِ بَيْنَهُمْ إِذَا كَانُوا جَمِيعًا مُحِلِّينَ أَوْ مُحَرِّمِينَ؟ (قُلْتُ) :
مَعْنَاهُ أَنَّهُ يُجَازِيهِمْ جَزَاءَ اخْتِلَافِ فِعْلِهِمْ فِي كَوْنِهِمْ مُحَلِّينَ تَارَةً وَمُحْرِمِينَ أُخْرَى، وَوَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَمَرَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوا فِي الْأُسْبُوعِ يَوْمًا لِلْعِبَادَةِ، وَأَنْ يَكُونَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، فَأَبَوْا عَلَيْهِ وَقَالُوا: نُرِيدُ الْيَوْمَ الَّذِي فَرَغَ اللَّهُ فِيهِ من خلق السموات وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّبْتُ، إِلَّا شِرْذِمَةً مِنْهُمْ قَدْ رَضُوا بِالْجُمُعَةِ، فَهَذَا اخْتِلَافُهُمْ فِي السَّبْتِ، لِأَنَّ بَعْضَهُمُ اخْتَارَهُ، وَبَعْضَهُمُ اخْتَارَ عَلَيْهِ الْجُمُعَةَ، فَأَذِنَ اللَّهُ لَهُمْ فِي السَّبْتِ، وَابْتَلَاهُمْ بِتَحْرِيمِ الصَّيْدِ فِيهِ، فَأَطَاعَ أَمْرَ اللَّهِ الرَّاضُونَ بِالْجُمُعَةِ فَكَانُوا لَا يَصِيدُونَ، وَأَعْقَابُهُمْ لَمْ يَصْبِرُوا عَنِ الصَّيْدِ فَمَسَخَهُمُ اللَّهُ دُونَ أُولَئِكَ. وَهُوَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُجَازِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ بِمَا يَسْتَوْجِبُهُ. وَمَعْنَى جَعَلَ السَّبْتَ: فَرَضَ عَلَيْهِمْ تَعْظِيمَهُ، وَتَرْكَ الِاصْطِيَادِ فِيهِ انْتَهَى. وَهُوَ كَلَامٌ مُلَفَّقٌ مِنْ كَلَامِ الْمُفَسِّرِينَ قَبْلَهُ. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: عُدِّيَّ جَعَلَ بِعَلَى، لِأَنَّ الْيَوْمَ صَارَ عَلَيْهِمْ لَا لَهُمْ، لِارْتِكَابِهِمُ الْمَعَاصِيَ فِيهِ انْتَهَى. وَلِهَذَا قَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِنَّمَا جُعِلَ وَبَالُ السَّبْتِ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: جُعِلَ السَّبْتُ لَعْنَةً عَلَيْهِمْ بِأَنْ جَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَالَ: ذَرُوا الْأَعْمَالَ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَتَفَرَّغُوا فِيهِ لِعِبَادَتِي، فَقَالُوا: نُرِيدُ السَّبْتَ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَغَ فِيهِ مِنْ خَلْقِ السموات وَالْأَرْضِ، فَهُوَ أَوْلَى بِالرَّاحَةِ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ: جَعَلَ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَالْعَيْنِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ والأعمش: أنهما قرآ إِنَّمَا أَنْزَلْنَا السَّبْتَ، وَهِيَ تَفْسِيرُ مَعْنًى لَا قِرَاءَةٍ، لِأَنَّهَا مُخَالِفَةٌ لِسَوَادِ الْمُصْحَفِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ، وَلِمَا اسْتَفَاضَ عَنِ الْأَعْمَشِ وَابْنِ مَسْعُودٍ أنهما قرآ كَالْجَمَاعَةِ.
ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ: أَمَرَ اللَّهِ تَعَالَى رَسُولَهُ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ أَنْ يَدْعُوَ إِلَى دِينِ اللَّهِ وَشَرْعِهِ بِتَلَطُّفٍ، وَهُوَ أَنْ يَسْمَعَ الْمَدْعُوُّ حُكْمَهُ، وَهُوَ الْكَلَامُ الصَّوَابُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute