للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

«أَتَيْتُهُ سَعْيًا وَأَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً»

حُمِلَ ذَلِكَ بِالتَّأْوِيلِ عَلَى الْوَجْهِ الْمُخَلِّصِ مِنْ نَفْيِ الحوادث، وأَسْرى فِي هَذِهِ الْآيَةِ تَخْرُجُ فَصِيحَةً كَمَا ذَكَرْنَا وَلَا يُحْتَاجُ إِلَى تَجَوُّزِ قَلَقٍ فِي مِثْلِ هَذِهِ اللَّفْظَةِ فَإِنَّهُ أَلْزَمُ لِلنُّقْلَةِ مِنْ أَتَيْتُهُ وَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمُ انْتَهَى. وَإِنَّمَا احْتَاجَ ابْنُ عَطِيَّةَ إِلَى هَذِهِ الدَّعْوَى اعْتِقَادَ أَنَّهُ إِذَا كَانَ أَسْرَى بِمَعْنَى سَرَى لَزِمَ مِنْ كَوْنِ الْبَاءِ لِلتَّعْدِيَةِ مُشَارَكَةُ الْفَاعِلِ لِلْمَفْعُولِ وَهَذَا شَيْءٌ ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمُبَرِّدُ، فَإِذَا قُلْتَ: قُمْتُ بِزَيْدٍ لَزِمَ مِنْهُ قِيَامُكَ وَقِيَامُ زِيدٍ عِنْدَهُ وَهَذَا لَيْسَ كَذَلِكَ، الْتَبَسَتْ عِنْدَهُ بَاءُ التَّعْدِيَةِ بِبَاءِ الْحَالِ، فَبَاءُ الْحَالِ يَلْزَمُ فِيهِ الْمُشَارَكَةُ إِذِ الْمَعْنَى قُمْتُ مُلْتَبِسًا بِزَيْدٍ وَبَاءُ التَّعْدِيَةِ مُرَادِفَةٌ لِلْهَمْزَةِ، فَقُمْتُ بِزَيْدٍ وَالْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ كَقَوْلِكَ أَقَمْتُ زَيْدًا وَلَا يَلْزَمُ مِنْ إِقَامَتِكَهُ أَنْ تَقُومَ أَنْتَ.

قَالَ ابن عطية: ويحتمل أن يَكُونَ أَسْرَى بِمَعْنَى سَرَى عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ كَنَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ «١» يَعْنِي أَنْ يَكُونَ التقدير لسرت مَلَائِكَتُهُ بِعَبْدِهِ، فَحُذِفَ الْمُضَافُ وَأُقِيمَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مَقَامَهُ، وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى اعْتِقَادِ أَنَّهُ يَلْزَمُ الْمُشَارَكَةَ وَالْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ وَأَيْضًا فَمَوَارِدُ الْقُرْآنِ فِي فَأَسْرِ بِقَطْعِ الْهَمْزَةِ وَوَصْلِهَا يَقْتَضِي أَنَّهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ، أَلَا تَرَى أَنَّ قَوْلَهُ: فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ «٢» وأَنْ أَسْرِ بِعِبادِي «٣» قرىء بِالْقَطْعِ وَالْوَصْلِ، وَيَبْعُدُ مَعَ الْقَطْعِ تَقْدِيرُ مَفْعُولٍ مَحْذُوفٍ إِذْ لَمْ يُصَرَّحْ بِهِ فِي مَوْضِعٍ، فَيُسْتَدَلُّ بِالْمُصَرَّحِ عَلَى الْمَحْذُوفِ.

وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْإِسْرَاءَ كَانَ بِشَخْصِهِ وَلِذَلِكَ كَذَّبَتْ قُرَيْشٌ بِهِ وَشَنَّعَتْ عَلَيْهِ، وَحِينَ قَصَّ ذلك على أم هانىء قَالَتْ: لَا تُحَدِّثِ النَّاسَ بِهَا فَيُكَذِّبُوكَ وَلَوْ كَانَ مَنَامًا اسْتُنْكِرَ ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَهُوَ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُعْتَقَدَ. وَحَدِيثُ الْإِسْرَاءِ مَرْوِيٌّ فِي الْمَسَانِيدِ عَنِ الصَّحَابَةِ فِي كُلِّ أَقْطَارِ الْإِسْلَامِ، وَذُكِرَ أَنَّهُ رَوَاهُ عِشْرُونَ مِنَ الصَّحَابَةِ. قِيلَ وَمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ وَمُعَاوِيَةَ أَنَّهُ كَانَ مَنَامًا فَلَعَلَّهُ لَا يَصِحُّ عَنْهُمَا، وَلَوْ صَحَّ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ حُجَّةٌ لِأَنَّهُمَا لَمْ يُشَاهِدَا ذَلِكَ لِصِغَرِ عَائِشَةَ وَكُفْرِ مُعَاوِيَةَ إِذْ ذَاكَ، وَلِأَنَّهُمَا لَمْ يُسْنِدَا ذَلِكَ إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا حَدَّثَا بِهِ عَنْهُ. وَعَنِ الْحَسَنِ كَانَ فِي الْمَنَامِ رُؤْيَا رَآهَا وَقَوْلُهُ: بِعَبْدِهِ هُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ سُلَيْمَانُ الْأَنْصَارِيُّ: لَمَّا وَصَلَ محمد صلى الله عليه وَسَلَّمَ إِلَى الدَّرَجَاتِ الْعَالِيَةِ وَالْمَرَاتِبِ الرَّفِيعَةِ فِي الْمَعَارِجِ أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: يَا محمد بم أُشَرِّفُكَ؟ قَالَ: يَا رَبِّ بِنِسْبَتِي إِلَيْكَ بِالْعُبُودِيَّةِ، فَأَنْزَلَ فِيهِ سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ الْآيَةَ

انْتَهَى. وَعَنْهُ قَالُوا: عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، وَعَنْهُ إِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ وَهَذِهِ إِضَافَةُ تَشْرِيفٍ وَاخْتِصَاصٍ. وقال الشاعر:


(١) سورة البقرة: ٢/ ١٧.
(٢) سورة هود: ١١/ ١٨ وسورة الحجر: ١٥/ ٦٥.
(٣) سورة طه: ٢٠/ ٧٧ وسورة الشعراء: ٢٦/ ٥٢.

<<  <  ج: ص:  >  >>