للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عَلَيْهِ وَلَا مَنْوِيٍّ، لِأَنَّ مَنْ يَتَكَلَّمُ بِهَذَا الْكَلَامِ فَإِنَّهُ لَا يَنْوِي لِأَمْرِهِ مَأْمُورًا بِهِ وَكَأَنَّهُ يَقُولُ: كَانَ مِنِّي أَمْرٌ فَلَمْ يَكُنْ مِنْهُ طَاعَةٌ كَمَا أَنَّ مَنْ يَقُولُ: فُلَانٌ يُعْطِي وَيَمْنَعُ وَيَأْمُرُ وَيَنْهَى غَيْرُ قَاصِدٍ إِلَى مَفْعُولٍ. فَإِنْ قُلْتَ: هَلَّا كَانَ ثُبُوتُ الْعِلْمِ بِأَنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَإِنَّمَا يَأْمُرُ بِالْقِسْطِ وَالْخَيْرِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَمَرْنَاهُمْ بِالْخَيْرِ فَفَسَقُوا

؟ قُلْتُ: لَا يَصِحُّ ذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ فَفَسَقُوا

يُدَافِعُهُ فَكَأَنَّكَ أَظْهَرْتَ شَيْئًا وَأَنْتَ تَدَّعِي إِضْمَارَ خِلَافِهِ، فَكَانَ صَرْفُ الْأَمْرِ إِلَى الْمَجَازِ هُوَ الْوَجْهَ. وَنَظِيرُ أَمَرَ شَاءَ فِي أَنَّ مَفْعُولَهُ اسْتَفَاضَ فِيهِ الْحَذْفُ لِدَلَالَةِ مَا بَعْدَهُ عَلَيْهِ تَقُولُ: لَوْ شَاءَ لَأَحْسَنَ إِلَيْكَ، وَلَوْ شَاءَ لَأَسَاءَ إِلَيْكَ، تُرِيدُ لَوْ شَاءَ الْإِحْسَانَ وَلَوْ شَاءَ الْإِسَاءَةَ فَلَوْ ذَهَبْتَ تُضْمِرُ خِلَافَ مَا أَظْهَرْتَ وَقُلْتَ: قَدْ دَلَّتْ حَالُ مَنْ أَسْنَدْتَ إِلَيْهِ الْمَشِيئَةَ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْإِحْسَانِ أَوْ مِنْ أَهْلِ الْإِسَاءَةِ فَاتْرُكِ الظَّاهِرَ الْمَنْطُوقَ بِهِ وَأَضْمِرْ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ حَالُ صَاحِبِ الْمَشِيئَةِ لَمْ يَكُنْ عَلَى سَدَادٍ انْتَهَى.

أَمَّا مَا ارْتَكَبَهُ مِنَ الْمَجَازِ وَهُوَ أَنَّ أَمَرْنا مُتْرَفِيها

صَبَبْنَا عَلَيْهِمُ النِّعْمَةَ صَبًّا فَيَبْعُدُ جِدًّا. وَأَمَّا قَوْلُهُ وَأَقْدَرَهُمْ عَلَى الْخَيْرِ وَالشَّرِّ إِلَى آخِرِهِ فَمَذْهَبُ الِاعْتِزَالِ، وَقَوْلُهُ لِأَنَّ حَذْفَ مَا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ غَيْرُ جَائِزِ تَعْلِيلٌ لَا يَصِحُّ فِيمَا نَحْنُ بِسَبِيلِهِ، بَلْ ثَمَّ مَا يَدُلُّ عَلَى حَذْفِهِ. وَقَوْلُهُ فَكَيْفَ يُحْذَفُ مَا الدَّلِيلُ قَائِمٌ عَلَى نَقِيضِهِ إِلَى قَوْلِهِ عِلْمَ الْغَيْبِ، فَنَقُولُ: حَذْفُ الشَّيْءِ تَارَةً يَكُونُ لِدَلَالَةٍ مُوَافِقَةٍ عَلَيْهِ، وَمِنْهُ مَا مَثَّلَ بِهِ فِي قَوْلِهِ أَمَرْتُهُ فَقَامَ وَأَمَرْتُهُ فَقَرَأَ، وَتَارَةً يَكُونُ لِدَلَالَةِ خِلَافِهِ أَوْ ضِدِّهِ أَوْ نَقِيضِهِ فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ «١» قَالُوا:

تَقْدِيرُهُ مَا سَكَنَ وَمَا تَحَرَّكَ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ «٢» قَالُوا: الْحَرَّ وَالْبَرْدَ.

وَقَوْلُ الشَّاعِرِ:

وَمَا أَدْرِي إِذَا يَمَّمْتُ أَرْضًا ... أُرِيدُ الْخَيْرَ أَيُّهُمَا يَلِينِي

أَأَلْخَيْرُ الَّذِي أَنَا أَبْتَغِيهِ ... أَمِ الشَّرُّ الَّذِي هُوَ يَبْتَغِينِي

تَقْدِيرُهُ: أُرِيدُ الْخَيْرَ وَأَجْتَنِبُ الشَّرَّ، وَتَقُولُ: أَمَرْتُهُ فَلَمْ يُحْسِنْ فَلَيْسَ الْمَعْنَى أَمَرْتُهُ بِعَدَمِ الْإِحْسَانِ فَلَمْ يُحْسِنْ، بَلِ الْمَعْنَى أَمَرْتُهُ بِالْإِحْسَانِ فَلَمْ يُحْسِنْ، وَهَذِهِ الْآيَةُ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ يُسْتَدَلُّ عَلَى حَذْفِ النَّقِيضِ بِإِثْبَاتِ نَقِيضِهِ، وَدَلَالَةُ النَّقِيضِ عَلَى النَّقِيضِ كَدَلَالَةِ النَّظِيرِ عَلَى النَّظِيرِ، وَكَذَلِكَ أَمَرْتُهُ فَأَسَاءَ إِلَيَّ الْمَعْنَى أَمَرْتُهُ بِالْإِسَاءَةِ فَأَسَاءَ إِلَيَّ، إِنَّمَا يُفْهَمُ مِنْهُ أَمَرْتُهُ بِالْإِحْسَانِ فَأَسَاءَ إِلَيَّ. وَقَوْلُهُ وَلَا يَلْزَمُ هَذَا قَوْلَهُمْ أَمَرْتُهُ فَعَصَانِي. نَقُولُ: بَلْ يَلْزَمُ، وَقَوْلُهُ لِأَنَّ


(١) سورة الأنعام: ٣/ ١٣. [.....]
(٢) سورة النحل: ١٦/ ٨١.

<<  <  ج: ص:  >  >>