للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قَدَّمْنَاهُ، أَوْ عَلَى طَرِيقِ التَّعَجُّبِ مِنْ بَقَرَةٍ مَيِّتَةٍ يُضْرَبُ بِهَا مَيِّتٌ فَيَحْيَا، إِذْ ذَاكَ فِي غَايَةِ الِاسْتِغْرَابِ وَالْخُرُوجِ عَنِ الْمَأْلُوفِ، أَوْ عَلَى طَرِيقِ أَنَّهُمْ ظَنُّوا قَوْلَهُ: أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً مِنْ بَابِ الْمُجْمَلِ، فَسَأَلُوا تَبْيِينَ ذَلِكَ، إِذْ تَبْيِينُ الْمُجْمَلِ وَاجِبٌ، أَوْ عَلَى رَجَاءِ أَنْ يَنْسَخَ عَنْهُمْ تَكْلِيفَ الذَّبْحِ، لِثِقَلِ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، لِكَوْنِهِمْ لَمْ يَعْلَمُوا الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ أُمِرُوا بِذَلِكَ.

وَتَقَدَّمَ مَعْنَى قَوْلِهِمْ: ادْعُ لَنا رَبَّكَ، كَيْفَ خَصُّوا لَفْظَ الرَّبِّ مُضَافًا إِلَى مُوسَى، وَذَلِكَ لِمَا عَلِمُوا لَهُ عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْخُصُوصِيَّةِ وَالْمَنْزِلَةِ الرَّفِيعَةِ. وَقِيلَ: إِنَّمَا سَأَلُوا مُوسَى اسْتِرْشَادًا لَا عِنَادًا، إِذْ لَوْ كَانَ عِنَادًا لَكَفَرُوا بِهِ وَعُجِّلَتْ عُقُوبَتُهُمْ، كَمَا عُجِّلَتْ فِي قَوْلِهِمْ: أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً «١» ، وَفِي عِبَادَتِهِمُ الْعِجْلَ، وَفِي امْتِنَاعِهِمْ مِنْ قَبُولِ التَّوْرَاةِ، وَقَوْلِهِمْ: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا «٢» . وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: فَدَعَا مُوسَى رَبَّهُ فَأَجَابَهُ.

قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لَا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ: صفة لبقرة، وَالصِّفَةُ إِذَا كَانَتْ مَنْفِيَّةً بِلَا، وَجَبَ تَكْرَارُهَا، كَمَا قَالَ:

وَفِتْيَانُ صِدْقٍ لَا ضِعَافٌ وَلَا عُزْلُ فَإِنْ جَاءَتْ غَيْرَ مُكَرَّرَةٍ، فَبَابُهَا الشِّعْرُ، وَمَنْ جَعَلَ ذَلِكَ مِنَ الْوَصْفِ بِالْمُجْمَلِ، فَقَدَّرَ مُبْتَدَأً مَحْذُوفًا، أَيْ لَا هِيَ فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ، فَقَدْ أَبْعَدَ، لِأَنَّ الْأَصْلَ الْوَصْفُ بِالْمُفْرَدِ، وَالْأَصْلُ أَنْ لَا حَذْفَ. عَوانٌ: تَفْسِيرٌ لِمَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ: لَا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ. بَيْنَ ذلِكَ: يَقْتَضِي بَيْنَ أَنْ تَكُونَ تَدْخُلُ عَلَى مَا يُمْكِنُ التَّثْنِيَةُ فِيهِ، وَلَمْ يَأْتِ بَعْدَهَا إِلَّا اسْمُ إِشَارَةٍ مُفْرَدٌ، فَقِيلَ: أُشِيرَ بِذَلِكَ إِلَى مُفْرَدٍ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: عَوَانٌ بَيْنَ مَا ذُكِرَ، فَصُورَتُهُ صُورَةُ الْمُفْرَدِ، وَهُوَ فِي الْمَعْنَى مُثَنًّى، لِأَنَّ تَثْنِيَةَ اسْمِ الْإِشَارَةِ وَجَمْعَهُ لَيْسَ تَثْنِيَةً وَلَا جَمْعًا حَقِيقَةً، بَلْ كَانَ الْقِيَاسُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ اسْمُ الْإِشَارَةِ لَا يُثَنَّى وَلَا يُجْمَعُ وَلَا يُؤَنَّثُ، قَالُوا: وَقَدْ أُجْرِىَ الضَّمِيرُ مُجْرَى اسْمِ الْإِشَارَةِ، قَالَ رُؤْبَةُ:

فِيهَا خُطُوطٌ مِنْ سَوَادٍ وَبَلَقْ ... كَأَنَّهُ فِي الْجِلْدِ تَوْلِيعُ الْبَهَقْ

قِيلَ لَهُ: كَيْفَ تَقُولُ كَأَنَّهُ؟ وَهَلَّا قُلْتَ: كَأَنَّهَا، فَيَعُودَ عَلَى الْخُطُوطِ، أَوْ كَأَنَّهُمَا، فَيَعُودَ عَلَى السَّوَادِ وَالْبَلَقِ؟ فَقَالَ: أَرَدْتُ كَانَ ذَاكَ، وَقَالَ لَبِيدٌ:

إِنَّ لِلْخَيْرِ وَلِلشَّرِّ مَدًى ... وَكِلَا ذَلِكَ وجه وقبل


(١) سورة المائدة: ٥/ ٢٤.
(٢) سورة النساء: ٤/ ١٥٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>