للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يَرْحَمَكَ رَبُّكَ فَيَرُدُّهُ عَلَيْكَ كَانَ رَحْمَتُهُ يَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ بِالرَّدِّ أَوْ يَكُونُ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ بِمَعْنَى وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ نَتْرُكُهُ غَيْرَ مَذْهُوبٍ بِهِ، وَهَذَا امْتِنَانٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِبَقَاءِ الْقُرْآنِ مَحْفُوظًا بَعْدَ الْمِنَّةِ فِي تَنْزِيلِهِ وَتَحْفِيظِهِ انْتَهَى. وَعَلَى الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ خَرَّجَهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ وَابْنُ عَطِيَّةَ.

قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: لَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ تَمْنَعُ مِنْ أَنْ تُسْلَبَ الْقُرْآنَ، وَقَالَ فِي زَادِ الْمَسِيرِ الْمَعْنَى لَكِنَّ اللَّهَ يَرْحَمُكَ فَأَثْبَتُ ذَلِكَ فِي قَلْبِكَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ تُمْسِكَ ذَلِكَ عَلَيْكَ وَتَخْرِيجُ الزَّمَخْشَرِيِّ الْأَوَّلُ جَعَلَهُ اسْتِثْنَاءً مُتَّصِلًا جَعَلَ رَحْمَتَهُ تَعَالَى مُنْدَرِجَةً تَحْتَ قَوْلِهِ تَعَالَى وَكِيلًا.

قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا.

لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى إِنْعَامَهُ عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنُّبُوَّةِ بإنزال وَحْيِهِ عَلَيْهِ وَبَاهِرَ قُدْرَتِهِ بِأَنَّهُ تَعَالَى لَوْ شَاءَ لَذَهَبَ بِالْقُرْآنِ، ذَكَرَ مَا مَنَحَهُ تَعَالَى مِنَ الدَّلِيلِ عَلَى نَبُّوتِهِ الْبَاقِي بَقَاءَ الدَّهْرِ، وَهُوَ الْقُرْآنُ الَّذِي عَجَزَ الْعَالَمُ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ، وَأَنَّهُ مِنْ أَكْبَرِ النِّعَمِ وَالْفَضْلِ الَّذِي أَبْقَى لَهُ ذِكْرًا إِلَى آخِرِ الدَّهْرِ وَرَفَعَ لَهُ قَدْرًا بِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَإِذَا كَانَ فُصَحَاءُ اللِّسَانِ الَّذِي نَزَلَ بِهِ وَبُلَغَاؤُهُمْ عَجَزُوا عَنِ الْإِتْيَانِ بِسُورَةٍ وَاحِدَةٍ مِثْلِهِ فَلَأَنْ يَكُونُوا أَعْجَزَ عَنْ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ جَمِيعِهِ، وَلَوْ تَعَاوَنَ الثَّقَلَانِ عَلَيْهِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ الْجِنُّ تَفْعَلُ أَفْعَالًا مُسْتَغْرَبَةً كَمَا حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ فِي قِصَّةِ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أُدْرِجُوا مَعَ الْإِنْسِ فِي التَّعْجِيزِ لِيَكُونَ ذَلِكَ أَبْلَغَ فِي الْعَجْزِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْمَلَائِكَةُ مُنْدَرِجِينَ تَحْتَ لَفْظِ الْجِنِّ لِأَنَّهُ قَدْ يُطْلَقُ عَلَيْهِمْ هَذَا الِاسْمُ كَقَوْلِهِ وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً «١» وَإِنْ كَانَ الْأَكْثَرُ اسْتِعْمَالَهُ فِي غَيْرِ الْمَلَائِكَةِ مِنَ الْأَشْكَالِ الْجِنِّيَّةِ الْمُسْتَتِرِينَ عَنْ أَبْصَارِ الْإِنْسِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذِكْرُ الْجِنَّ هُنَا لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بُعِثَ إِلَى الْإِنْسِ وَالْجِنِّ فَوَقَعَ التَّعْجِيزُ لِلثَّقَلَيْنِ معا لذلك.


(١) سورة الصافات: ٣٧/ ١٥٨. [.....]

<<  <  ج: ص:  >  >>