للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

هُنَا رُؤْيَةُ الْقَلْبِ وَهِيَ الْعِلْمُ، وَمَعْنَى مِثْلَهُمْ مِنَ الْإِنْسِ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا أَشَدَّ خَلْقًا مِنْهُنَّ كَمَا قَالَ أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ «١» وَإِذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى إِنْشَاءِ أَمْثَالِهِمْ مِنَ الْإِنْسِ مِنَ الْعَدَمِ الصِّرْفِ فَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُعِيدَهُمْ كَمَا قَالَ وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ «٢» وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ. وَعَطَفَ قَوْلَهُ وَجَعَلَ لَهُمْ عَلَى قَوْلِهِ أَوَلَمْ يَرَوْا لِأَنَّهُ اسْتِفْهَامٌ تَضَمَّنَ التَّقْرِيرَ وَالْمَعْنَى قَدْ عَلِمُوا بِدَلِيلِ الْعَقْلِ كَيْتَ وَكَيْتَ وَجَعَلَ لَهُمْ أَيْ لِلْعَالَمِينَ ذَلِكَ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ وَهُوَ الْمَوْتُ أَوِ الْقِيَامَةُ، وَلَيْسَ هَذَا الْجَعْلُ وَاحِدًا فِي الِاسْتِفْهَامِ الْمُتَضَمِّنِ التَّقْرِيرَ، أَوْ إِنْ كَانَ الْأَجَلُ الْقِيَامَةَ لِأَنَّهُمْ مُنْكِرُوهَا وَإِذَا كَانَ الْأَجَلُ الْمَوْتَ فَهُوَ اسْمُ جِنْسٍ وَاقِعُ مَوْقِعَ آجَالٍ: فَأَبَى الظَّالِمُونَ وَهُمُ الْوَاضِعُونَ الشَّيْءَ غَيْرَ مَوْضِعِهِ عَلَى سَبِيلِ الاعتداء إِلَّا كُفُوراً جحودا لِمَا أَتَى بِهِ الصَّادِقُ مِنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ وَإِفْرَادِهِ بِالْعِبَادَةِ، وَبَعْثِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِلْجَزَاءِ.

قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً.

مُنَاسَبَةُ قَوْلِهِ قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ الْآيَةِ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا. فَطَلَبُوا إِجْرَاءَ الْأَنْهَارِ وَالْعُيُونِ فِي بَلَدِهِمْ لِتَكْثُرَ أَقْوَاتُهُمْ وَتَتَّسِعَ عَلَيْهِمْ، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُمْ لَوْ مَلَكُوا خَزَائِنَ رَحْمَةِ اللَّهِ لَبَقَوْا عَلَى بُخْلِهِمْ وَشُحِّهِمْ، وَلَمَا قَدِمُوا عَلَى إِيصَالِ النَّفْعِ لِأَحَدٍ، وَعَلَى هَذَا فَلَا فَائِدَةَ فِي إِسْعَافِهِمْ بِمَا طَلَبُوا هَذَا مَا قِيلَ فِي ارْتِبَاطِ هَذِهِ الْآيَةِ. وَقَالَهُ الْعَسْكَرِيُّ: وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ الْمُنَاسِبَ هُوَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ مَنَحَهُ اللَّهُ مَا لَمْ يَمْنَحْهُ لِأَحَدٍ مِنَ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ إِلَى الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، فَهُوَ أَحْرَصُ النَّاسِ عَلَى إِيصَالِ الْخَيْرِ وَإِنْقَاذِهِمْ مِنَ الضَّلَالِ يُثَابِرُ عَلَى ذَلِكَ وَيُخَاطِرُ بِنَفْسِهِ فِي دُعَائِهِمْ إِلَى اللَّهِ، وَيَعْرِضُ ذَلِكَ عَلَى الْقَبَائِلِ وَأَحْيَاءِ الْعَرَبِ سَمْحًا بِذَلِكَ لَا يَطْلُبُ مِنْهُمْ أَجْرًا، وَهَؤُلَاءِ أَقْرِبَاؤُهُ لَا يَكَادُ يُجِيبُ مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلَّا الْوَاحِدَ بَعْدَ الْوَاحِدِ قَدْ لَجُّوا فِي عِنَادِهِ وَبَغْضَائِهِ، فَلَا يَصِلُ مِنْهُمْ إِلَيْهِ إِلَّا الْأَذَى، فَنَبَّهَ تَعَالَى بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى سَمَاحَتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَبَذْلِهِ مَا آتَاهُ اللَّهُ، وَعَلَى امْتِنَاعِ هَؤُلَاءِ أَنْ يَصِلَ مِنْهُمْ شَيْءٌ مِنَ الْخَيْرِ إِلَيْهِ فَقَالَ: لَوْ مَلَكُوا التصرف في خَزائِنَ


(١) سورة النازعات: ٧٩/ ٢٧.
(٢) سورة الروم: ٣٠/ ٢٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>