للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ذَلِكَ أَنْ يَسْلُكَ مَذْهَبَ الْكُوفِيِّينَ فِي أَنْ أَفْعَلَ التَّفْضِيلِ يَنْتَصِبُ الْمَفْعُولَ بِهِ، فَالْقَوَانِسُ عِنْدَهُمْ مَنْصُوبٌ بِأَضْرِبُ نَصْبَ الْمَفْعُولِ بِهِ، وَإِنَّمَا تَأْوِيلُهُ بِضَرْبِ الْقَوَانِسِ قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ، وَلِذَلِكَ ذَهَبَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ «١» مَنْ مَنْصُوبَةٌ بِأَعْلَمَ نَصْبَ الْمَفْعُولِ بِهِ، وَلَوْ كَثُرَ وُجُودُ مِثْلِ:

وَأَضْرَبَ مِنَّا بِالسُّيُوفِ الْقَوَانِسَا لَكِنَّا نَقِيسُهُ وَيَكُونُ مَعْنَاهُ صَحِيحًا لِأَنَّ أَفْعَلَ التَّفْضِيلِ مُضَمَّنٌ مَعْنَى الْمَصْدَرِ فَيَعْمَلُ بِذَلِكَ التَّضْمِينِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَعْنَى يَزِيدُ ضَرْبَنَا بِالسُّيُوفِ الْقَوَانِسَا عَلَى ضَرْبِ غَيْرِنَا، وَلَمَّا ذَكَرَ قَوْلَهُ لِيَعْلَمَ مُشْعِرًا بِاخْتِلَافٍ فِي أَمْرِهِمْ عَقَّبَ بِأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي يَقُصُّ شَيْئًا فَشَيْئًا عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَبَرَهُمْ بِالْحَقِّ أَيْ عَلَى وَجْهِ الصِّدْقِ، وَجَاءَ لَفْظُ نَحْنُ نَقُصُّ مُوَازِيًا لِقَوْلِهِ لِنَعْلَمَ.

ثُمَّ قَالَ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ فَفِيهِ إِضَافَةُ الرَّبِّ وَهُوَ السَّيِّدُ وَالنَّاظِرُ فِي مَصْلَحَةِ عَبِيدِهِ، وَلَمْ يَأْتِ التَّرْكِيبُ آمَنُوا بِنَاءً لِلْأَشْعَارِ بِتِلْكَ الرُّتْبَةِ وَهِيَ أَنَّهُمْ مَرْبُوبُونَ لَهُ مَمْلُوكُونَ. ثُمَّ قَالَ:

وَزِدْناهُمْ هُدىً وَلَمْ يَأْتِ التَّرْكِيبُ وَزَادَهُمْ لِمَا في لفظة نامن الْعَظَمَةِ وَالْجَلَالِ، وَزِيَادَتُهُ تَعَالَى لَهُمْ هُدىً هُوَ تَيْسِيرُهُمْ لِلْعَمَلِ الصَّالِحِ وَالِانْقِطَاعِ إِلَيْهِ وَمُبَاعَدَةِ النَّاسِ وَالزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا، وَهَذِهِ زِيَادَةٌ فِي الْإِيمَانِ الَّذِي حَصَلَ لَهُمْ. وَفِي التَّحْرِيرِ زِدْناهُمْ ثَمَرَاتٍ هُدىً أَوْ يَقِينًا قَوْلَانِ، وَمَا حَصَلَتْ بِهِ الزِّيَادَةُ امْتِثَالُ الْمَأْمُورِ وَتَرْكُ الْمَنْهِيِّ، أَوْ إِنْطَاقُ الْكَلْبِ لَهُمْ بِأَنَّهُ هُوَ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْإِيمَانِ، أَوْ إِنْزَالُ مَلَكٍ عَلَيْهِمْ بِالتَّبْشِيرِ وَالتَّثْبِيتِ وَإِخْبَارُهُمْ بِظُهُورِ نَبِيٍّ مِنَ الْعَرَبِ يَكُونُ الدِّينُ بِهِ كُلُّهُ لِلَّهِ فَآمَنُوا بِهِ قَبْلَ بَعْثِهِ أَقْوَالٌ مُلَخَّصَةٌ مِنَ التَّحْرِيرِ.

وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ ثَبَّتْنَاهَا وَقَوَّيْنَاهَا عَلَى الصَّبْرِ عَلَى هِجْرَةِ الْوَطَنِ وَالنَّعِيمِ وَالْفِرَارِ بِالدِّينِ إِلَى غَارٍ فِي مَكَانٍ قَفْرٍ لَا أَنِيسَ بِهِ وَلَا مَاءَ وَلَا طَعَامَ، وَلَمَّا كَانَ الْفَزَعُ وَخَوْفُ النَّفْسِ يُشْبِهُ بِالتَّنَاسُبِ الِانْحِلَالَ حَسُنَ فِي شِدَّةِ النَّفْسِ وَقُوَّةِ التَّصْمِيمِ أَنْ تُشْبِهَ الرَّبْطَ، وَمِنْهُ فُلَانٌ رَابِطُ الْجَأْشِ إِذَا كَانَتْ نَفْسُهُ لَا تَتَفَرَّقُ عِنْدَ الْفَزَعِ وَالْحَرْبِ. وَقَالَ تَعَالَى: إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها «٢» وَالْعَامِلُ فِي أَنْ رَبَطْنا أَيْ رَبَطْنَا حِينَ قامُوا، وَيَحْتَمِلُ الْقِيَامُ أَنْ يَكُونَ مَقَامُهُمْ بَيْنَ يَدَيِ الْمَلِكِ الْكَافِرِ دِقْيَانُوسَ، فَإِنَّهُ مَقَامٌ مُحْتَاجٌ إِلَى الرَّبْطِ عَلَى الْقَلْبِ حَيْثُ صَلَبُوا عَلَيْهِ وَخَلَعُوا دِينَهُ وَرَفَضُوا فِي ذَاتِ اللَّهِ هَيْبَتَهُ، ويحتمل أن


(١) سورة الأنعام: ٦/ ١١٧.
(٢) سورة القصص: ٢٨/ ١٠.

<<  <  ج: ص:  >  >>