كُنْتَ تَقِيًّا
أَيْ بِدُخُولِكَ عَلَيَّ وَنَظَرِكَ إِلَيَّ، وَلِيَاذُهَا بِاللَّهِ وَعِيَاذُهَا بِهِ وَقْتَ التَّمْثِيلِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ أَوَّلَ مَا تَمَثَّلَ لَهَا اسْتَعَاذَتْ مِنْ غَيْرِ جَرْيِ كَلَامٍ بَيْنَهُمَا.
قالَ
أَيْ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ
النَّاظِرُ فِي مَصْلَحَتِكِ وَالْمَالِكُ لِأَمْرِكِ، وَهُوَ الَّذِي اسْتَعَذْتِ بِهِ وَقَوْلُهُ لَهَا ذَلِكَ تَطْمِينٌ لَهَا وَإِنِّي لَسْتُ مِمَّنْ تُظَنُّ بِهِ رِيبَةٌ أَرْسَلَنِي إِلَيْكِ لِيَهَبَ. وَقَرَأَ شَيْبَةُ وَأَبُو الْحَسَنِ وَأَبُو بَحْرِيَّةَ وَالزُّهْرِيُّ وَابْنُ مُنَاذِرٍ وَيَعْقُوبُ وَالْيَزِيدِيُّ وَمِنَ السَّبْعَةِ نَافِعٌ وأبو عمر: وليهب أَيْ لِيَهَبَ رَبُّكِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَبَاقِي السَّبْعَةِ لِأَهَبَ
بِهَمْزَةِ الْمُتَكَلِّمِ وَأَسْنَدَ الْهِبَةَ إِلَيْهِ لَمَّا كَانَ الْإِعْلَامُ بِهَا مِنْ قِبَلِهِ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لِأَهَبَ لَكِ
لِأَكُونَ سَبَبًا فِي هِبَةِ الْغُلَامِ بِالنَّفْخِ فِي الرَّوْعِ. وَفِي بَعْضِ الْمَصَاحِفِ أَمَرَنِي أَنْ أَهَبَ لَكِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَحْكِيًّا بِقَوْلٍ مَحْذُوفٍ أَيْ قَالَ لِأَهَبَ
وَالْغُلَامُ اسْمُ الصَّبِيِّ أَوَّلَ مَا يُولَدُ إِلَى أَنْ يَخْرُجَ إِلَى سِنِّ الْكُهُولَةِ. وَفُسِّرَتِ الزَّكَاةُ هُنَا بِالصَّلَاحِ وَبِالنُّبُوَّةِ وَتَعَجَّبَتْ مَرْيَمُ وَعَلِمَتْ بِمَا أُلْقِيَ فِي رَوْعِهَا أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى سُؤَالِهَا عَنِ الْكَيْفِيَّةِ فِي آلِ عِمْرَانَ فِي قِصَّتِهَا وَفِي قَوْلِهَا وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا تَخْصِيصٌ بَعْدَ تَعْمِيمٍ لِأَنَّ مَسِيسَ الْبَشَرِ يَكُونُ بِنِكَاحٍ وَبِسِفَاحٍ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: جُعِلَ الْمَسُّ عِبَارَةً عَنِ النِّكَاحِ الْحَلَالِ لِأَنَّهُ كِنَايَةٌ عَنْهُ لِقَوْلِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ «١» أو لمستم النِّسَاءَ وَالزِّنَا لَيْسَ كَذَلِكَ إِنَّمَا يُقَالُ فَجَرَ بِهَا وَخَبُثَ بِهَا وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَلَيْسَ بِقَمِنٍ أَنْ يُرَاعَى فِيهِ الْكِنَايَاتُ وَالْآدَابُ انْتَهَى. وَالْبَغِيُّ الْمُجَاهِرَةُ الْمُشْتَهِرَةُ فِي الزِّنَا، وَوَزْنُهُ فَعُولٌ عِنْدَ الْمُبَرِّدِ اجْتَمَعَتْ وَاوٌ وَيَاءٌ وَسُبِقَتْ إِحْدَاهُمَا بِالسُّكُونِ فَقُلِبَتِ الْوَاوُ يَاءً وَأُدْغِمَتْ فِي الْيَاءِ وَكُسِرَ مَا قَبْلَهَا لِأَجْلِ الْيَاءِ كَمَا كُسِرَتْ فِي عِصِيٍّ وَدِلِيٍّ. قِيلَ: وَلَوْ كَانَ فَعِيلًا لَحِقَتْهَا هَاءُ التَّأْنِيثِ فَيُقَالُ بَغِيَّةٌ. وَقَالَ ابْنُ جِنِّي فِي كِتَابِ التَّمَامِ: هِيَ فَعِيلٌ، وَلَوْ كَانَتْ فَعُولًا لَقِيلَ بَغُوٌّ كَمَا قِيلَ فُلَانٌ نَهُوٌّ عَنِ الْمُنْكَرِ انْتَهَى. قِيلَ: وَلَمَّا كَانَ هَذَا اللَّفْظُ خَاصًّا بِالْمُؤَنَّثِ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى عَلَامَةِ التَّأْنِيثِ فَصَارَ كَحَائِضٍ وَطَالِقٍ، وَإِنَّمَا يُقَالُ لِلرَّجُلِ بَاغٍ. وَقِيلَ:
بَغِيٌّ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ كَعَيْنٍ كَحِيلٍ أَيْ مبغية بطلبها أَمْثَالُهَا.
قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ الْكَلَامُ عَلَيْهِ كَالْكَلَامِ السَّابِقِ فِي قِصَّةِ زَكَرِيَّا وَلِنَجْعَلَهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى تَعْلِيلٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ لِنُبَيِّنَ بِهِ قُدْرَتَنَا وَلِنَجْعَلَهُ أَوْ مَحْذُوفٍ مُتَأَخِّرٍ أَيْ فَعَلْنَا ذَلِكَ، وَالضَّمِيرُ فِي وَلِنَجْعَلَهُ عَائِدٌ عَلَى الْغُلَامِ
(١) سورة البقرة: ٢/ ٢٣٧، وسورة الأحزاب: ٣٣/ ٤٩.