وَعَنِ ابْنِ زَيْدٍ قَالَ عِيسَى لَهَا لَا تَحْزَنِي، فَقَالَتْ: كَيْفَ لَا أَحْزَنُ وَأَنْتَ مَعِي لَا ذَاتَ زَوْجٍ وَلَا مَمْلُوكَةً أَيُّ شَيْءٍ عُذْرِي عِنْدَ النَّاسِ؟ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا الْآيَةَ فَقَالَ لَهَا عِيسَى: أَنَا أَكْفِيكِ الْكَلَامَ
فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَيْ جَمَعْنَا لَكِ فِي السَّرِيِّ وَالرُّطَبِ فَائِدَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ، وَالثَّانِيَةُ سَلْوَةُ الصَّدْرِ لِكَوْنِهِمَا مُعْجِزَتَيْنِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً أَيْ وَطِيبِي نَفْسًا وَلَا تَغْتَمِّي وَارْفُضِي عَنْكِ مَا أَحْزَنَكِ وَأَهَمَّكِ انْتَهَى. وَلَمَّا كَانَتِ الْعَادَةُ تَقْدِيمَ الْأَكْلِ عَلَى الشُّرْبِ تَقَدَّمَ فِي الآية والمجاورة قَوْلِهِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا وَلَمَّا كَانَ الْمَحْزُونُ قَدْ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ قَالَ:
وَقَرِّي عَيْناً أَيْ لَا تَحْزَنِي، ثُمَّ أَلْقَى إِلَيْهَا مَا تَقُولُ إِنْ رَأَتْ أحدا. وقرىء وَقَرِّي بِكَسْرِ الْقَافِ وَهِيَ لُغَةٌ نَجْدِيَّةٌ وَتَقَدَّمَ ذِكْرُهَا.
وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو فِي مَا رَوَى عَنْهُ ابْنُ رُومِيٍّ تَرَئِنَّ بِالْإِبْدَالِ مِنَ الْيَاءِ هَمْزَةً وَرُوِيَ عَنْهُ لَتَرَؤُنَّ بِالْهَمْزِ أَيْضًا بَدَلَ الْوَاوِ. قَالَ ابْنُ خَالَوَيْهِ: وَهُوَ عِنْدَ أَكْثَرِ النَّحْوِيِّينَ لَحْنٌ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهَذَا مِنْ لُغَةِ مَنْ يَقُولُ لتأت بِالْحَجِّ وَحَلَأْتُ السَّوِيقَ وَذَلِكَ لِتَآخٍ بَيْنَ الْهَمْزَةِ وَحُرُوفِ اللِّينِ فِي الْإِبْدَالِ انْتَهَى. وَقَرَأَ طَلْحَةُ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ تَرَيِنَّ بِسُكُونِ الْيَاءِ وَفَتْحِ النُّونِ خَفِيفَةً. قَالَ ابْنُ جِنِّي: وَهِيَ شَاذَّةٌ يَعْنِي لِأَنَّهُ لَمْ يُؤَثِّرِ الْجَازِمُ فَيَحْذِفَ النُّونَ. كَمَا قَالَ الْأَفْوَهُ الْأَوْدِيُّ:
أَمَا تَرَى رَأْسِي أَزْرَى بِهِ ... مَآسُ زَمَانٍ ذِي انْتِكَاسٍ مؤوس
وَالْآمِرُ لَهَا بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَذَلِكَ الْقَوْلِ الظَّاهِرُ أَنَّهُ وَلَدُهَا. وَقِيلَ جِبْرِيلُ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي سَبَقَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أُبِيحَ لَهَا أَنْ تَقُولَ مَا أُمِرَتْ بِقَوْلِهِ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: مَعْنَى فَقُولِي أَيْ بِالْإِشَارَةِ لَا بِالْكَلَامِ وَإِلَّا فَكَانَ التَّنَاقُضُ يُنَافِي قَوْلَهَا انْتَهَى. وَلَا تَنَاقُضَ لِأَنَّ الْمَعْنَى فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا بعد فَقُولِي هَذَا وَبَيْنَ الشَّرْطِ وَجَزَائِهِ جُمْلَةٌ مَحْذُوفَةٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَعْنَى، أَيْ فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً وَسَأَلَكِ أَوْ حَاوَرَكِ الْكَلَامَ فَقُولِي.
وقرأ يد بْنُ عَلِيٍّ صِيَامًا وَفَسَّرَ صَوْماً بِالْإِمْسَاكِ عَنِ الْكَلَامِ. وَفِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ صَمْتًا. وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ مِثْلُهُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ وَابْنُ زَيْدٍ: كَانَتْ سُنَّةُ الصِّيَامِ عِنْدَهُمُ الْإِمْسَاكَ عَنِ الْأَكْلِ وَالْكَلَامِ انْتَهَى. وَالصَّمْتُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ وَلَا يَصِحُّ نَذْرُهُ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «مُرْهُ فَلْيَتَكَلَّمْ» .
وَقَدْ أَمَرَ ابْنُ مَسْعُودٍ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ بِالنُّطْقِ وَأُمِرَتْ بِنَذْرِ الصَّوْمِ لِأَنَّ عِيسَى بِمَا يُظْهِرُ اللَّهُ عَلَيْهِ يَكْفِيهَا أَمْرَ الِاحْتِجَاجِ وَمُجَادَلَةِ السُّفَهَاءِ. وَقَوْلُهُ إِنْسِيًّا لِأَنَّهَا كَانَتْ تُكَلِّمُ الملائكة دون الإنس.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute