عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي.
وَقِيلَ: مُرَادُهُ مِنَ السُّؤَالِ عَنْهَا لِمَ عَبَدْتَ الْأَصْنَامَ وَلَمْ تَعْبُدِ اللَّهَ إِنْ كَانَ الْحَقُّ مَا وَصَفْتَ؟ وَقِيلَ: مُرَادُهُ مَا لَهَا لَا تَبْعَثُ وَلَا تُحَاسِبُ وَلَا تُجَازِي فَقَالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فَأَجَابَهُ بِأَنَّ هَذَا سُؤَالٌ عَنِ الْغَيْبِ وَقَدِ اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِهِ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا هُوَ. وَقَالَ النَّقَّاشُ:
إِنَّمَا سَأَلَ لَمَّا سَمِعَ وَعْظَ مُؤْمِنِ آلِ فِرْعَوْنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ «١» الْآيَةَ فَرَدَّ عِلْمَ ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَزَلَتْ عَلَيْهِ التَّوْرَاةُ. وَقِيلَ لَمَّا قَالَ إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى قَالَ فِرْعَوْنُ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى فَإِنَّهَا كَذَّبَتْ ثُمَّ إِنَّهُمْ مَا عُذِّبُوا. وَقِيلَ: لَمَّا قَرَّرَ أَمْرَ الْمَبْدَأِ وَالدَّلَالَةِ الْقَاطِعَةِ عَلَى إِثْبَاتِ الصَّانِعِ قَالَ فِرْعَوْنُ:
إِنْ كَانَ مَا ذَكَرْتَ فِي غَايَةِ الظُّهُورِ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى نَسَوْهُ وَتَرَكُوهُ، فَلَوْ كَانَتِ الدَّلَالَةُ وَاضِحَةً وَجَبَ عَلَى الْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ أَنْ لَا يَكُونُوا غَافِلِينَ عَنْهَا. فَعَارَضَ الْحُجَّةَ النَّقْلِيَّةَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِرْعَوْنُ قَدْ نَازَعَهُ فِي إِحَاطَةِ اللَّهِ بِكُلِّ شَيْءٍ وَتَبَيُّنِهِ لِكُلِّ مَعْلُومٍ فَتَعَنَّتَ وَقَالَ: مَا تَقُولُ فِي سَوَالِفِ الْقُرُونِ وَتَمَادِي كَثْرَتِهِمْ وَتَبَاعُدِ أَطْرَافِ عَدَدِهِمْ، كَيْفَ أَحَاطَ بِهِمْ وَبِأَجْزَائِهِمْ وَجَوَاهِرِهِمْ، فَأَجَابَ بِأَنَّ كُلَّ كَائِنٍ مُحِيطٌ بِهِ عِلْمُهُ وَهُوَ مُثْبَتٌ عِنْدَهُ فِي كِتابٍ وَلَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ كَمَا يَجُوزُ عَلَيْكَ أَيُّهَا الْعَبْدُ الذَّلِيلُ وَالْبَشَرُ الضَّئِيلُ، أَيْ لَا يَضِلُّ كَمَا تَضِلُّ أَنْتَ وَلا يَنْسى كَمَا تَنْسَى يَا مُدَّعِي الرُّبُوبِيَّةِ بِالْجَهْلِ وَالْوَقَاحَةِ قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ.
وَالظَّاهِرُ عَوْدُ الضَّمِيرِ فِي عِلْمُها إِلَى الْقُرُونِ الْأُولى أَيْ مَكْتُوبٌ عِنْدَ رَبِّي فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ أَنْ يخطىء شَيْئًا أَوْ يَنْسَاهُ، يُقَالُ: ضَلَلْتُ الشَّيْءَ إِذَا أَخْطَأْتُهُ فِي مَكَانِهِ، وَضَلِلْتُهُ لُغَتَانِ فَلَمْ يَهْتَدِ إِلَيْهِ كَقَوْلِكَ: ضَلَلْتُ الطَّرِيقَ وَالْمَنْزِلَ وَلَا يُقَالُ أَضْلَلْتُهُ إِلَّا إِذَا ضَاعَ مِنْكَ كَالدَّابَّةِ إِذَا انْفَلَتَتْ وَشِبْهِهَا قَالَهُ الْفَرَّاءُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: ضَلَلْتُهُ أَضِلُّهُ إِذَا جَعَلْتَهُ فِي مَكَانٍ وَلَمْ تَدْرِ أَيْنَ هُوَ، وَأَضْلَلْتُهُ وَالْكِتَابُ هُنَا اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ. وَقِيلَ فِي كِتابٍ فِيمَا كَتَبَتْهُ الْمَلَائِكَةُ مِنْ أَحْوَالِ الْبَشَرِ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي عِلْمُها عَائِدٌ عَلَى الْقِيَامَةِ لِأَنَّهُ سَأَلَهُ عَنْ بَعْثِ الْأُمَمِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ لَا يَضِلُّ لَا يَغْفُلُ. وَقَالَ ابْنُ عِيسَى لَا يَضِلُّ لَا يَذْهَبُ عَلَيْهِ تَقُولُ الْعَرَبُ ضَلَّ مَنْزِلَهُ بِغَيْرِ أَلِفٍ. وَفِي الْحَيَوَانِ أَضَلَّ بَعِيرَهُ بِالْأَلَفِ. وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ لَا يَضِلُّ رَبِّي الْكِتَابَ وَلا يَنْسى مَا فِيهِ قَالَهُ مُقَاتِلٌ. وَقَالَ الْقَفَّالُ لَا يَضِلُّ عَنْ مَعْرِفَةِ الْأَشْيَاءِ فَيُحِيطُ بِكُلِّ الْمَعْلُومَاتِ وَلا يَنْسى إِشَارَةٌ إِلَى بَقَاءِ ذَلِكَ الْعِلْمِ أَبَدَ الْآبَادِ عَلَى حَالِهِ لَا يَتَغَيَّرُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: لا يخطىء وَقْتَ الْبَعْثِ وَلَا يَنْسَاهُ.
(١) سورة غافر: ٤٠/ ٣٠.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute