للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى. قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى.

قرأ الجمهور يَهْدِ الياء. وَقَرَأَ فِرْقَةٌ مِنْهُمُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالسُّلَمِيُّ بِالنُّونِ، وَبَّخَهُمْ تَعَالَى وَذَكَّرَهُمُ الْعِبَرَ بِمَنْ تَقَدَّمَ مِنَ الْقُرُونِ، وَيَعْنِي بِالْإِهْلَاكِ الْإِهْلَاكَ النَّاشِئَ عَنْ تَكْذِيبِ الرُّسُلِ وَتَرْكِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَاتِّبَاعِ رُسُلِهِ، وَالْفَاعِلُ لِيَهْدِ ضَمِيرٌ عَائِدٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَيُؤَيِّدُ هَذَا التَّخْرِيجَ قِرَاءَةُ نَهْدِ بِالنُّونِ وَمَعْنَاهُ نُبَيِّنُ وَقَالَهُ الزَّجَّاجُ. وَقِيلَ: الْفَاعِلُ مُقَدَّرٌ تَقْدِيرُهُ الْهُدَى وَالْآرَاءُ وَالنَّظَرُ وَالِاعْتِبَارُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا أَحْسَنُ مَا يُقَدَّرُ بِهِ عِنْدِي انْتَهَى. وَهُوَ قَوْلُ الْمُبَرِّدِ وَلَيْسَ بِجَيِّدٍ إِذْ فِيهِ حَذْفُ الْفَاعِلِ وَهُوَ لَا يَجُوزُ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ، وَتَحْسِينُهُ أَنْ يُقَالَ الْفَاعِلُ مُضْمَرٌ تَقْدِيرُهُ يَهْدِ هُوَ أَيِ الْهُدَى. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: الْفَاعِلُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ أَهْلَكْنا وَالْجُمْلَةُ مُفَسِّرَةٌ لَهُ. قَالَ الْحَوْفِيُّ كَمْ أَهْلَكْنا قَدْ دَلَّ عَلَى هَلَاكِ الْقُرُونِ، فَالتَّقْدِيرُ أَفَلَمْ نُبَيِّنْ لَهُمْ هَلَاكَ مَنْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ وَمَحْوِ آثَارِهِمْ فَيَتَّعِظُوا بِذَلِكَ.

وَقَالَ الزمخشري: فاعل فَلَمْ يَهْدِ الْجُمْلَةُ بَعْدَهُ يُرِيدُ أَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ هَذَا بِمَعْنَاهُ وَمَضْمُونِهِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ «١» أَيْ تَرَكْنَا عَلَيْهِ هَذَا الْكَلَامَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ ضَمِيرُ اللَّهِ أَوِ الرَّسُولِ انْتَهَى. وَكَوْنُ الْجُمْلَةِ فَاعِلًا هُوَ مَذْهَبٌ كُوفِيٌّ، وَأَمَّا تَشْبِيهُهُ وتنظيره بقوله تَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ فَإِنَّ تَرْكَنَا عَلَيْهِ مَعْنَاهُ مَعْنَى الْقَوْلِ فَحُكِيَتْ بِهِ الْجُمْلَةُ كَأَنَّهُ قِيلَ وَقُلْنَا عَلَيْهِ، وَأَطْلَقْنَا عَلَيْهِ هَذَا اللَّفْظَ وَالْجُمْلَةُ تُحْكَى بِمَعْنَى الْقَوْلِ كَمَا تُحْكَى بِلَفْظِهِ، وَأَحْسَنُ التَّخَارِيجِ الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْفَاعِلُ ضَمِيرًا عَائِدًا عَلَى اللَّهِ كَأَنَّهُ قَالَ أَفَلَمْ يُبَيِّنِ اللَّهُ وَمَفْعُولُ يُبَيِّنُ مَحْذُوفٌ، أَيْ الْعِبَرَ بِإِهْلَاكِ الْقُرُونِ السَّابِقَةِ ثُمَّ قَالَ كَمْ أَهْلَكْنا أَيْ كَثِيرًا أَهْلَكْنَا، فَكَمْ مَفْعُولُهُ بِأَهْلَكْنَا وَالْجُمْلَةُ كَأَنَّهَا مُفَسِّرَةٌ لِلْمَفْعُولِ الْمَحْذُوفِ لِيَهْدِ.

وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: قَالَ بَعْضُهُمْ هِيَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ فَاعِلِ يَهْدِ وَأُنْكِرَ هَذَا عَلَى قَائِلِهِ لِأَنَّ كَمِ اسْتِفْهَامٌ لَا يَعْمَلُ فِيهَا مَا قَبْلَهَا انْتَهَى. وَلَيْسَتْ كَمْ هُنَا اسْتِفْهَامًا بَلْ هِيَ خَبَرِيَّةٌ.

وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: يَهْدِ لَهُمْ فِي فَاعِلِهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا ضَمِيرُ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى أَيْ أَلَمْ يُبَيِّنِ اللَّهُ لَهُمْ وَعَلَّقَ يَهْدِ هُنَا إِذْ كَانَتْ بِمَعْنَى يَعْلَمُ كَمَا عُلِّقَتْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ «٢» انتهى.


(١) سورة الصافات: ٣٧/ ٨٧.
(٢) سورة إبراهيم: ١٤/ ٤٥.

<<  <  ج: ص:  >  >>