سَلَّطَهُ عَلَى أَهْلِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ بَعَثَ إِلَيْهِمْ جَيْشًا فَهَزَمُوهُ، ثُمَّ بَعَثَ آخَرَ فَهَزَمُوهُ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَيْهِمْ بِنَفْسِهِ فَهَزَمَهُمْ فِي الثَّالِثَةِ، فَلَمَّا أَخَذَ الْقَتْلُ فِيهِمْ رَكَضُوا هَارِبِينَ.
فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا أَيْ بَاشَرُوهُ بِالْإِحْسَاسِ وَالضَّمِيرُ فِي أَحَسُّوا عَائِدٌ عَلَى أَهْلِ الْمَحْذُوفِ مِنْ قَوْلِهِ وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ وَلَا يَعُودُ عَلَى قَوْلِهِ قَوْماً آخَرِينَ لِأَنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ لَهُمْ ذَنْبٌ يَرْكُضُونَ مِنْ أَجْلِهِ، وَالضَّمِيرُ فِي مِنْها عَائِدٌ عَلَى الْقَرْيَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ عَلَى بَأْسَنا لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الشِّدَّةِ، فَأُنِّثَ عَلَى الْمَعْنَى وَمِنْ عَلَى هَذَا السَّبَبِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ لَمَّا أَدْرَكَتْهُمْ مُقَدِّمَةُ الْعَذَابِ رَكِبُوا دَوَابَّهُمْ يَرْكُضُونَهَا هَارِبِينَ مُنْهَزِمِينَ. قِيلَ:
وَيَجُوزُ أَنْ شُبِّهُوا فِي سُرْعَةِ عَدْوِهِمْ عَلَى أَرْجُلِهِمْ بِالرَّاكِبِينَ الرَّاكِضِينَ لِدَوَابِّهِمْ فَهُمْ يَرْكُضُونَ الْأَرْضَ بِأَرْجُلِهِمْ، كَمَا قَالَ ارْكُضْ بِرِجْلِكَ «١» وَجَوَابُ لَمَّا إِذا الْفُجَائِيَّةُ وَمَا بَعْدَهَا، وَهَذَا أَحَدُ الدَّلَائِلِ عَلَى أَنَّ لَمَّا فِي هَذَا التَّرْكِيبِ حَرْفٌ لَا ظَرْفٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا الْقَوْلُ فِي ذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ: لَا تَرْكُضُوا قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَوْلِ رِجَالِ بُخْتُ نَصَّرَ عَلَى الرِّوَايَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، فَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا أنهم خدعوهم واستهزؤا بِهِمْ بِأَنْ قَالُوا لِلْهَارِبِينَ مِنْهُمْ: لَا تَفِرُّوا وَارْجِعُوا إلى منازلكم لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ صُلْحًا أَوْ جِزْيَةً أَوْ أَمْرًا يُتَّفَقُ عَلَيْهِ، فَلَمَّا انْصَرَفُوا أَمَرَ بُخْتُ نَصَّرَ أَنْ يُنَادَى فِيهِمْ يَا لَثَارَّاتِ النَّبِيِّ الْمَقْتُولِ فَقُتِلُوا بِالسَّيْفِ عَنْ آخِرِهِمْ، هَذَا كُلُّهُ مَرْوِيٌّ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: لَا تَرْكُضُوا إِلَى آخِرِ الْآيَةِ مِنْ كَلَامِ مَلَائِكَةِ الْعَذَابِ، وَصَفَ قِصَّةَ كُلِّ قَرْيَةٍ وَأَنَّهُ لَمْ يُرِدْ تَعْيِينَ حَضُورَاءَ وَلَا غَيْرَهَا، فَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا أَنَّ أَهْلَ هَذِهِ الْقُرَى كَانُوا بِاغْتِرَارِهِمْ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ مِنَ اللَّهِ بِمَكَانٍ وَأَنَّهُ لَوْ جَاءَهُمْ عَذَابٌ أَوْ أَمْرٌ لَمْ يَنْزِلْ بِهِمْ حَتَّى يَتَخَاصَمُوا وَيُسْأَلُوا عَنْ وَجْهِ تَكْذِيبِهِمْ لِنَبِيِّهِمْ فَيَحْتَجُّونَ هُمْ عِنْدَ ذَلِكَ بِحُجَجٍ تَنْفَعُهُمْ فِي ظَنِّهِمْ، فَلَمَّا نَزَلَ الْعَذَابُ دُونَ هَذَا الَّذِي أَمِلُوهُ وَرَكَضُوا فَارِّينَ نَادَتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ عَلَى وَجْهِ الْهُزْءِ بِهِمْ.
لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ كَمَا كُنْتُمْ تَطْمَعُونَ لِسَفَهِ آرَائِكُمْ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ يَعْنِي الْقَائِلُ بَعْضُ الْمَلَائِكَةِ، أَوْ مِنْ ثَمَّ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، أَوْ يُجْعَلُونَ خُلَقَاءَ بِأَنْ يُقَالَ لَهُمْ ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يُقَلْ، أَوْ يَقُولَهُ رَبُّ الْعِزَّةِ وَيُسْمِعَهُ مَلَائِكَتَهُ لِيَنْفَعَهُمْ فِي دِينِهِمْ أَوْ يُلْهِمَهُمْ ذَلِكَ فَيُحَدِّثُوا بِهِ نُفُوسَهُمْ.
(١) سورة ص: ٣٨/ ٤٢.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute