ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ يَجْمَعُ الْعِبْرَةَ وَتَعْدِيدَ النِّعْمَةِ وَالْحُجَّةَ لِلْمَحْسُوسِ بَيِّنٌ، وَيُنَاسِبُ قَوْلَهُ وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَيْ مِنَ الْمَاءِ الَّذِي أَوْجَدَهُ الْفَتْقُ انْتَهَى.
وَعَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ تَكُونُ الرُّؤْيَةُ مِنَ الْبَصَرِ وَعَلَى مَا قَبْلَهُمَا مِنْ رُؤْيَةِ الْقَلْبِ، وَجَاءَ تَقْرِيرُهُمْ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ وَارِدٌ فِي الْقُرْآنِ الَّذِي هُوَ مُعْجِزَةٌ فِي نَفْسِهِ فَقَامَ مَقَامَ الْمَرْئِيِّ الْمُشَاهَدِ، وَلِأَنَّ تَلَاصُقَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ وَتَبَايُنَهُمَا كِلَاهُمَا جَائِزٌ فِي الْعَقْلِ فَلَا بُدَّ لِلتَّبَايُنِ دُونَ التَّلَاصُقِ مِنْ مُخَصِّصٍ، وَهُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ رَتْقاً بِسُكُونِ التَّاءِ وَهُوَ مَصْدَرٌ يُوصَفُ بِهِ كَزَوْرٍ وَعَدْلٍ فَوَقَعَ خَبَرًا لِلْمُثَنَّى. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَأَبُو حَيْوَةَ وَعِيسَى رَتْقاً بِفَتْحِ التَّاءِ وَهُوَ اسْمُ الْمَرْتُوقِ كَالْقَبْضِ وَالنَّفْضِ، فَكَانَ قِيَاسُهُ أَنْ يُبْنَى لِيُطَابِقَ الْخَبَرُ الِاسْمَ. فَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هُوَ عَلَى تَقْدِيرِ مَوْصُوفٍ أَيْ كانَتا شَيْئًا رَتْقاً. وَقَالَ أَبُو الْفَضْلِ الرَّازِيُّ:
الْأَكْثَرُ فِي هَذَا الْبَابِ أَنْ يَكُونَ الْمُتَحَرِّكُ مِنْهُ اسْمًا بِمَعْنَى المفعول والساكن مصدر، أَوْ قَدْ يَكُونَانِ مَصْدَرَيْنِ لَكِنَّ الْمُتَحَرِّكَ أَوْلَى بِأَنْ يَكُونَ فِي مَعْنَى الْمَفْعُولِ لَكِنَّ هُنَا الْأَوْلَى أَنْ يَكُونَا مَصْدَرَيْنِ فَأُقِيمَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَقَامَ الْمَفْعُولَيْنِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ كانَتا رَتْقاً فَلَوْ جَعَلْتَ أَحَدَهُمَا اسْمًا لَوَجَبَ أَنْ تُثَنِّيَهُ فَلَمَّا قَالَ رَتْقاً كَانَ فِي الْوَجْهَيْنِ كَرَجُلٍ عَدْلٍ وَرَجُلَيْنِ عَدْلٍ وَقَوْمٍ عَدْلٍ انْتَهَى.
وَجَعَلْنا إِنْ تَعَدَّتْ لِوَاحِدٍ كَانَتْ بِمَعْنَى وَخَلَقْنَا مِنَ الْماءِ كُلَّ حَيَوَانٍ أَيْ مَادَّتُهُ النُّطْفَةُ قَالَهُ قُطْرُبٌ وَجَمَاعَةٌ أَوْ لَمَّا كَانَ قِوَامُهُ الْمَاءَ الْمَشْرُوبَ وَكَانَ مُحْتَاجًا إِلَيْهِ لَا يَصْبِرُ عَنْهُ جُعِلَ مَخْلُوقًا مِنْهُ كَقَوْلِهِ خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ «١» قال الْكَلْبِيُّ وَغَيْرُهُ، وَتَكُونُ الْحَيَاةُ عَلَى هَذَا حَقِيقَةً وَيَكُونُ كُلُّ شَيْءٍ عَامًّا مَخْصُوصًا إِذْ خَرَجَ مِنْهُ الْمَلَائِكَةُ وَالْجِنُّ وَلَيْسُوا مَخْلُوقِينَ مِنْ نُطْفَةٍ وَلَا مُحْتَاجِينَ لِلْمَاءِ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: أَيْ خَلَقْنَا كُلَّ نَامٍ مِنَ الْمَاءِ فَيَدْخُلُ فِيهِ النَّبَاتُ وَالْمَعْدِنُ، وَتَكُونُ الْحَيَاةُ فِيهِمَا مَجَازًا أَوْ عَبَّرَ بِالْحَيَاةِ عَنِ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْحَيَوَانِ وَهُوَ النُّمُوُّ وَيَكُونُ أَيْضًا عَلَى هَذَا عَامًّا مَخْصُوصًا، وَإِنْ تَعَدَّتْ جَعَلْنا لِاثْنَيْنِ فَالْمَعْنَى صَيَّرْنَا كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ بِسَبَبٍ مِنَ الْمَاءِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ حَيٍّ بِالْخَفْضِ صِفَةٌ لِشَيْءٍ. وَقَرَأَ حُمَيْدٌ حَيًّا بِالنَّصْبِ مَفْعُولًا ثَانِيًا لِجَعَلْنَا، وَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ لَغْوٌ أَيْ لَيْسَ مَفْعُولًا ثَانِيًا لَجَعَلْنا أَفَلا يُؤْمِنُونَ اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ وَفِيهِ مَعْنَى التَّعَجُّبِ مِنْ ضَعْفِ عُقُولِهِمْ، وَالْمَعْنَى أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ هَذِهِ
(١) سورة الأنبياء: ٢١/ ٣٧.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute