للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَمَا رُتِّبَ عَلَى وُجُودِ شَرْطَيْنِ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَى وُجُودِ أَحَدِهِمَا، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَكْسِبْ سَيِّئَةً، وَهِيَ الشِّرْكُ، وَإِنْ أَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ، وَهِيَ الْكَبَائِرُ، لَا يَكُونُ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ، وَلَا مِمَّنْ يَخْلُدُ فِيهَا. وَيَعْنِي بِأَصْحَابِ النَّارِ: الَّذِينَ هُمْ أَهْلُهَا حَقِيقَةً، لَا مَنْ دَخَلَهَا ثُمَّ خَرَجَ مِنْهَا.

وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ: لَمَّا ذَكَرَ أَهْلَ النَّارِ، وَمَا أَعَدَّ لَهُمْ مِنَ الْهَلَاكِ: أَتْبَعَ ذَلِكَ بِذِكْرِ أَهْلِ الْإِيمَانِ، وَمَا أَعَدَّ لَهُمْ مِنَ الْخُلُودِ فِي الْجِنَانِ. وَالْمُرَادُ بِالَّذِينَ آمَنُوا: أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وَمُؤْمِنُو الْأُمَمِ قَبْلَهُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ، وَهُوَ ظَاهِرُ اللَّفْظِ، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هُوَ خَاصٌّ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمَّتِهِ، وَقَلَّ مَا ذُكِرَ فِي الْقُرْآنِ آيَةٌ فِي الْوَعِيدِ، إِلَّا وَذُكِرَتْ آيَةٌ فِي الْوَعْدِ. وَفَائِدَةُ ذَلِكَ ظُهُورُ عَدْلِهِ تَعَالَى، وَاعْتِدَالُ رجاء المؤمن وخوفه، وكمال رَحْمَتِهِ بِوَعْدِهِ وَحِكْمَتِهِ بِوَعِيدِهِ.

وَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ الْكَرِيمَةُ اسْتِبْعَادَ طَمَعِ الْمُؤْمِنِينَ فِي إِيمَانِ مَنْ سَبَقَ مِنْ آبَائِهِ التَّشْرِيفُ بِسَمَاعِ كَلَامِ اللَّهِ، ثُمَّ مُقَابَلَةَ ذَلِكَ بِعَظِيمِ التَّحْرِيفِ، هَذَا عَلَى عِلْمٍ مِنْهُمْ بِقَبِيحِ مَا ارْتَكَبُوهُ. وَهَؤُلَاءِ الْمَطْمُوعُ فِي إِيمَانِهِمْ هُمْ أَبْنَاءُ أُولَئِكَ الْمُحَرِّفِينَ، فَهُمْ عَلَى طَرِيقَةِ آبَائِهِمْ فِي الْكُفْرِ، ثُمَّ قَدِ انْطَوَوْا مِنْ حَيْثُ السَّرِيرَةُ عَلَى مُدَاجَاةِ الْمُؤْمِنِينَ، بِحَيْثُ إِذَا لَقُوهُمْ أَفْهَمُوهُمْ أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ، وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، أَنْكَرُوا عَلَيْهِمْ مَا يَتَكَلَّمُونَ بِهِ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ إِخْبَارٍ بِشَيْءٍ مِمَّا فِي كُتُبِهِمْ، وَذَلِكَ مَخَافَةَ أَنْ يَحْتَجَّ الْمُؤْمِنُونَ عَلَيْهِمْ بِمَا فِي كِتَابِهِمْ، ثُمَّ أَنْكَرَ تَعَالَى عَلَيْهِمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَدْ عَلِمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ، فَلَا يُنَاسِبُ ذَلِكَ إِلَّا الِانْقِيَادُ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ، وَالْإِخْبَارُ بِمَا فِيهِ، وَاتِّبَاعُ مَا تَضَمَّنَهُ مِنَ الْأَمْرِ، بِاتِّبَاعِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْإِيمَانُ بِمَا يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، وَلَكِنَّهُمْ كَفَرُوا عِنَادًا وَجَحَدُوا بِهَا، وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا.

ثُمَّ لَمَّا ذَكَرَ حَالَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ هُمْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَلَمْ يَنْتَفِعُوا بِعَلَمِهِمْ، ذَكَرَ أَيْضًا مُقَلِّدَتَهُمْ وَعَوَامَّهُمْ، وَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ مِنَ الْكِتَابِ إِلَّا أَلْفَاظًا مَسْمُوعَةً، وَأَنَّ طَرِيقَهُمْ فِي أُصُولِ دِيَانَاتِهِمْ إِنَّمَا هُوَ حُسْنُ ظَنِّهِمْ بِعُلَمَائِهِمُ الْمُحَرِّفِينَ الْمُبَدِّلِينَ. ثُمَّ تَوَعَّدَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْهَلَاكِ وَالْحَسْرَةِ، مَنْ حَرَّفَ كَلَامَ اللَّهِ وَادَّعَى أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، لِتَحْصِيلِ غَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا تَافِهٍ نَزْرٍ لَا يَبْقَى، فَبَاعَ بَاقِيًا بِفَانٍ.

<<  <  ج: ص:  >  >>