للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى حَالَةَ الْإِيمَانِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَتَنْوِيرَهُ قُلُوبَهُمْ وَوَصْفَهُمْ بِمَا وَصَفَهُمْ مِنَ الْأَعْمَالِ النَّافِعَةِ فِي الْآخِرَةِ أَعْقَبَ ذَلِكَ بِذِكْرِ مُقَابِلِهِمُ الْكَفَرَةِ وَأَعْمَالِهِمْ، فَمَثَّلَ لَهُمْ وَلِأَعْمَالِهِمْ مَثَلَيْنِ أَحَدُهُمَا يَقْتَضِي بُطْلَانَ أَعْمَالِهِمْ فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّهُمْ لَا يَنْتَفِعُونَ بِهَا. وَالثَّانِي يَقْتَضِي حَالَهَا فِي الدُّنْيَا مِنِ ارْتِبَاكِهَا فِي الضَّلَالِ وَالظُّلْمَةِ شَبَّهَ أَوَّلًا أَعْمَالَهُمْ فِي اضْمِحْلَالِهَا وَفُقْدَانِ ثَمَرَتِهَا بِسَرَابٍ فِي مَكَانٍ مُنْخَفِضٍ ظَنَّهُ الْعَطْشَانُ مَاءً فَقَصَدَهُ وَأَتْعَبَ نَفْسَهُ فِي الْوُصُولِ إِلَيْهِ.

حَتَّى إِذا جاءَهُ أَيْ جَاءَ مَوْضِعَهُ الَّذِي تَخَيَّلَهُ. فِيهِ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً أَيْ فَقَدَهُ لِأَنَّهُ مَعَ الدُّنُوِّ لَا يَرَى شَيْئًا. كَذَلِكَ الْكَافِرُ يَظُنُّ أَنَّ عَمَلَهُ فِي الدُّنْيَا نَافِعُهُ حَتَّى إِذَا أَفْضَى إِلَى الْآخِرَةِ لَمْ يَنْفَعْهُ عَمَلُهُ بَلْ صَارَ وَبَالًا عَلَيْهِ.

وَقَرَأَ مَسْلَمَةُ بْنُ مُحَارِبٍ: بِقِيعَاتٍ بِتَاءٍ مَمْطُوطَةٍ جَمْعُ قِيعَةٍ كَدِيمَاتٍ وَقِيمَاتٍ فِي دِيمَةٍ وَقِيمَةٍ، وَعَنْهُ أَيْضًا بِتَاءٍ شَكْلِ الْهَاءِ وَيَقِفُ عَلَيْهَا بِالْهَاءِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ جَمْعَ قِيعَةٍ، وَوَقَفَ بِالْهَاءِ عَلَى لغة طيء كَمَا قَالُوا الْبَنَاهُ وَالْأَخَوَاهُ فِي الْوَقْفِ عَلَى الْبَنَاتِ وَالْأَخَوَاتِ. قَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: وَيَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ قِيعَةً كَالْعَامَّةِ أَيْ كَالْقِرَاءَةِ الْعَامَّةِ، لَكِنَّهُ أَشْبَعَ الْفَتْحَةَ فَتَوَلَّدَتْ مِنْهَا الألف مثل مخر نبق لِيَنْبَاعَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقَدْ جَعَلَ بَعْضُهُمْ بِقِيعَاتٍ بِتَاءٍ مَمْدُودَةٍ كَرَجُلٍ عِزْهَاةٍ. وَقَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: وَيَجُوزُ أَنَّهُ جَعَلَهُ مِثْلَ سَعْلَةٍ وَسَعْلَاةٍ وَلَيْلَةٍ وَلَيْلَاةٍ، وَالْقِيعَةُ مُفْرَدٌ مُرَادِفٌ لِلْقَاعِ أَوْ جَمْعُ قَاعٍ كَنَارٍ وَنِيرَةٍ، فَتَكُونُ عَلَى هَذَا قِرَاءَةُ قِيعَاتٍ جَمْعَ صِحَّةٍ تَنَاوَلَ جَمْعَ تَكْسِيرٍ مِثْلَ رِجَالَاتِ قُرَيْشٍ وَجِمَالَاتٍ صُفْرٍ.

وَقَرَأَ شَيْبَةُ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَنَافِعٌ بِخِلَافٍ عَنْهُمَا الظَّمَّانُ بِحَذْفِ الْهَمْزَةِ وَنَقْلِ حَرَكَتِهَا إِلَى الْمِيمِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ هُوَ مِنْ صِفَاتِ السَّرَابِ وَلَا يَعْنِي إِلَّا مُطْلَقَ الظَّمْآنُ لَا الْكَافِرَ الظَّمْآنُ وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: شَبَّهَ مَا يَعْمَلُهُ مَنْ لَا يَعْتَقِدُ الْإِيمَانَ وَلَا يَتَّبِعُ الْحَقَّ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الَّتِي يَحْسَبُهَا أَنْ تَنْفَعَهُ عِنْدَ اللَّهِ وَتُنْجِيَهُ مِنْ عَذَابِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ يَخِيبُ فِي الْعَاقِبَةِ أَمَلُهُ وَيَلْقَى خِلَافَ مَا قَدَّرَ بِسَرَابٍ يَرَاهُ الْكَافِرُ بِالسَّاهِرَةِ وَقَدْ غَلَبَهُ عَطَشُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَيَحْسَبُهُ مَاءً، فَيَأْتِيهِ فَلَا يَجِدُ مَا رَجَاهُ ويجد ربانية اللَّهِ عِنْدَهُ، يَأْخُذُونَهُ وَيَعْتِلُونَهُ وَيَسْقُونَهُ الْحَمِيمَ وَالْغَسَّاقَ وَهُمُ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ عامِلَةٌ ناصِبَةٌ «١»


(١) سورة الغاشية: ٨٨/ ٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>