وَهُوَ الْأَفْصَحُ، لِأَنَّ قَبْلَهُ مُوجَبٌ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو أَنَّهُ قَرَأَ: إِلَّا قَلِيلٌ، بِالرَّفْعِ. وَقَرَأَ بِذَلِكَ أَيْضًا قَوْمٌ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا عَلَى بَدَلِ قَلِيلٍ مِنَ الضَّمِيرِ فِي تَوَلَّيْتُمْ، وَجَازَ ذَلِكَ، يَعْنِي الْبَدَلَ، مَعَ أَنَّ الْكَلَامَ لَمْ يَتَقَدَّمْ فِيهِ نَفْيٌ، لِأَنَّ تَوَلَّيْتُمْ مَعْنَاهُ النَّفْيُ، كَأَنَّهُ قَالَ: لَمْ يَفُوا بِالْمِيثَاقِ إِلَّا قَلِيلٌ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَالَّذِي ذَكَرَ النَّحْوِيُّونَ أَنَّ الْبَدَلَ مِنَ الْمُوجَبِ لَا يَجُوزُ، لَوْ قُلْتَ: قَامَ الْقَوْمُ إِلَّا زَيْدٌ، بِالرَّفْعِ عَلَى الْبَدَلِ، لَمْ يَجُزْ، قَالُوا: لِأَنَّ الْبَدَلَ يَحِلُّ مَحَلَّ الْمُبْدَلِ مِنْهُ، فَلَوْ قُلْتَ: قَامَ إِلَّا زَيْدٌ، لَمْ يَجُزْ لِأَنَّ إِلَّا لَا تَدْخُلُ فِي الْمُوجَبِ. وَأَمَّا مَا اعْتُلَّ بِهِ مِنْ تَسْوِيغِ ذَلِكَ، لِأَنَّ مَعْنَى تَوَلَّيْتُمُ النَّفْيُ، كَأَنَّهُ قِيلَ: لَمْ يَفُوا إِلَّا قَلِيلٌ، فَلَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّ كُلَّ مُوجَبٍ، إِذَا أَخَذْتَ فِي نَفْيِ نَقِيضِهِ أَوْ ضِدِّهِ، كَانَ كَذَلِكَ، فَلْيَجُزْ: قَامَ الْقَوْمُ إِلَّا زَيْدٌ، لِأَنَّهُ يُؤَوَّلُ بِقَوْلِكَ:
لَمْ تَجْلِسُوا إِلَّا زَيْدٌ. وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ تَعْتَبِرِ الْعَرَبُ هَذَا التَّأْوِيلَ، فَتَبْنِيَ عَلَيْهِ كَلَامَهَا، وَإِنَّمَا أَجَازَ النَّحْوِيُّونَ: قَامَ الْقَوْمُ إِلَّا زَيْدٌ بِالرَّفْعِ، عَلَى الصِّفَةِ. وَقَدْ عَقَدَ سِيبَوَيْهِ فِي ذَلِكَ بَابًا فِي كِتَابِهِ فَقَالَ: هَذَا بَابُ مَا يَكُونُ فِيهِ إِلَّا وَمَا بَعْدَهُ وَصْفًا بِمَنْزِلَةِ غَيْرٍ وَمِثْلٍ. وَذَكَرَ مِنْ أَمْثِلَةِ هَذَا الْبَابِ:
لَوْ كَانَ مَعَنَا رَجُلٌ إِلَّا زِيدٌ لغلبنا، ولَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا.
وَقَلِيلٌ بِهَا الْأَصْوَاتُ إِلَّا بُغَامُهَا وَسَوَّى بَيْنَ هَذَا، وَبَيْنَ قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ: لَا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ «١» ، بِرَفْعِ غَيْرٍ، وَجُوِّزَ فِي نَحْوِ: مَا قَامَ الْقَوْمُ إِلَّا زَيْدٌ، بِالرَّفْعِ الْبَدَلُ وَالصِّفَةُ، وَخُرِّجَ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُ عَمْرِو بْنِ مَعْدِي كَرِبَ:
وَكُلُّ أَخٍ مُفَارِقُهُ أَخُوهُ ... لَعَمْرُ أَبِيكَ إِلَّا الْفَرْقَدَانِ
قَالَ: كَأَنَّهُ قَالَ: وَكُلُّ أَخٍ غَيْرُ الْفَرْقَدَيْنِ مُفَارِقُهُ أَخُوهُ، كَمَا قَالَ الشَّمَّاخُ:
وَكُلُّ خليل غيرها ضم نَفْسِهِ ... لِوَصْلِ خَلِيلٍ صَارِمٌ أَوْ مُعَارِزُ
وَمِمَّا أَنْشَدَهُ النَّحْوِيُّونَ:
لَدَمٌ ضَائِعٌ نَأَتْ أَقْرَبُوهُ ... عَنْهُ إِلَّا الصَّبَا وَإِلَّا الْجَنُوبُ
وَأَنْشَدُوا أَيْضًا:
وَبِالصَّرِيمَةِ مِنْهُمْ مَنْزِلٌ خَلِقٌ ... عَافٍ تَغَيَّرَ إِلَّا النُّؤْيُ وَالْوَتِدُ
قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ عُصْفُورٍ: وَيُخَالِفُ الْوَصْفُ بِإِلَّا الْوَصْفَ بِغَيْرِهِ، من حيث
(١) سورة النساء: ٤/ ٩٥.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute