بَعْدَ شَيْءٍ مِنَ الْمَنَافِعِ مَا لَا يُعَدُّ وَلَا يُحْصَى، وَلَوْ قُبِضَ دُفْعَةً لَتَعَطَّلَتْ أَكْثَرُ مَرَافِقِ النَّاسِ بِالظِّلِّ وَالشَّمْسِ جَمِيعًا فَإِنْ قُلْتَ: ثُمَّ فِي هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ كَيْفَ مَوْقِعُهَا؟ قُلْتُ: موقعها البيان تَفَاضُلِ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ كَأَنَّ الثَّانِيَ أَعْظَمُ مِنَ الْأَوَّلِ، وَالثَّالِثَ أَعْظَمُ مِنَ الثَّانِي تَشْبِيهًا لِتَبَاعُدِ مَا بَيْنَهُمَا فِي الْفَضْلِ بِتَبَاعُدِ مَا بَيْنَ الْحَوَادِثِ فِي الْوَقْتِ. وَوَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهُ بَنَى الظِّلَّ حِينَ بَنَى السَّمَاءَ كَالْقُبَّةِ الْمَضْرُوبَةِ وَدَحَا الْأَرْضَ تَحْتَهَا فَأَلْقَتِ الْقُبَّةُ ظِلَّهَا عَلَى الْأَرْضِ لِعَدَمِ النَّيِّرِ.
وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً مُسْتَقِرًّا عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ ثُمَّ خَلَقَ الشَّمْسَ وَجَعَلَهُ عَلَى ذَلِكَ الظِّلِّ سَلَّطَهَا عَلَيْهِ وَجَعَلَهَا دَلِيلًا مَتْبُوعًا لَهُمْ كَمَا يُتْبَعُ الدَّلِيلُ فِي الطَّرِيقِ فَهُوَ يَزِيدُ بِهَا وَيَنْقُصُ وَيَمْتَدُّ وَيَقْلِصُ، ثُمَّ نَسَخَهُ بِهَا قَبَضَهُ قَبْضًا سَهْلًا يَسِيرًا غَيْرَ عَسِيرٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ قَبْضَهُ عِنْدَ قِيَامِ السَّاعَةِ بِقَبْضِ أَسْبَابِهِ وَهِيَ الْأَجْرَامُ الَّتِي تُلْقِي الظِّلَّ فَيَكُونُ قَدْ ذَكَرَ إِعْدَامَهُ بِإِعْدَامِ أَسْبَابِهِ، كَمَا ذَكَرَ إِنْشَاءَهُ بِإِنْشَاءِ أَسْبَابِهِ وَقَوْلُهُ قَبَضْناهُ إِلَيْنا يَدُلُّ عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ يَسِيراً كَمَا قَالَ ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ «١» انْتَهَى وَقَوْلُهُ: سَمَّى انبساط الظل وامتداده تحركا مِنْهُ لَمْ يُسَمِّ اللَّهُ ذَلِكَ إِنَّمَا قَالَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَقَوْلُهُ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ قَبْضَهُ عِنْدَ قيامه السَّاعَةِ فَهَذَا يَبْعُدُ احْتِمَالُهُ لِأَنَّهُ إِنَّمَا ذَكَرَ آثَارَ صَنْعَتِهِ وَقُدْرَتِهِ لِتُشَاهَدَ ثُمَّ قَالَ مَدَّ الظِّلَّ وَعَطَفَ عَلَيْهِ مَاضِيًا مِثْلَهُ فَيَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ ثُمَّ قبضه عند قيام الساعة مَعَ ظُهُورِ كَوْنِهِ مَاضِيًا مُسْتَدَامًا أَمْثَالُهُ.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً أَيْ ثَابِتًا غَيْرَ مُتَحَرِّكٍ وَلَا مَنْسُوخٍ، لَكِنَّهُ جَعَلَ الشَّمْسَ وَنَسْخَهَا إِيَّاهُ بِطَرْدِهَا لَهُ مِنْ مَوْضِعٍ إِلَى مَوْضِعٍ دَلِيلًا عَلَيْهِ مُبَيِّنًا لِوُجُودِهِ وَلِوَجْهِ الْعِبْرَةِ فِيهِ. وَحَكَى الطَّبَرِيُّ: أَنَّهُ لَوْلَا الشَّمْسُ لَمْ يُعْلَمْ أَنَّ الظِّلَّ شَيْءٌ إِذِ الْأَشْيَاءُ إِنَّمَا تُعْرَفُ بِأَضْدَادِهَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَسِيراً مُعَجَّلًا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ لَطِيفًا أَيْ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ سَهْلًا قَرِيبَ التَّنَاوُلِ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: أَكْثَرَ النَّاسُ فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ وَيُرْفَعُ الْكَلَامُ فِيهَا إِلَى وَجْهَيْنِ.
الْأَوَّلُ: أَنَّ الظِّلَّ لَا ضَوْءٌ خَالِصٌ وَلَا ظُلْمَةٌ خَالِصَةٌ، وَهُوَ مَا بَيْنَ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَطُلُوعِ الشَّمْسِ وَكَذَلِكَ الْكَيْفِيَّاتُ الْحَاصِلَةُ دَاخِلَ السَّقْفِ وَأَبْنِيَةِ الْجِدَارَاتِ، وَهِيَ أَطْيَبُ الْأَحْوَالِ لِأَنَّ الظُّلْمَةَ الْخَالِصَةَ يَكْرَهُهَا الطَّبْعُ وَيَنْفِرُ عَنْهَا الْحِسُّ وَالضَّوْءَ الْخَالِصَ يُحَيِّرُ الْحِسَّ البصري
(١) سورة ق: ٥٠/ ٤٤.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute