للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَبِرَحْمَتِهِ، أَوْ فَسَلْ بِسُؤَالِهِ خَبِيرًا. كَقَوْلِكَ، رَأَيْتُ بِهِ أَسَدًا أَيْ رَأَيْتُ بِرُؤْيَتِهِ، وَالْمَعْنَى إِنْ سَأَلْتَهُ وَجَدْتَهُ خَبِيرًا بِجَعْلِهِ حَالًا عَنْ بِهِ تُرِيدُ فَسَلْ عَنْهُ عَالِمًا بِكُلِّ شَيْءٍ.

وَقِيلَ: الرَّحْمنُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ مَذْكُورٌ فِي الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَلَمْ يَكُونُوا يَعْرِفُونَهُ. فَقِيلَ: فَسَلْ بِهَذَا الِاسْمِ مَنْ يُخْبِرُكَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ حَتَّى يُعْرَفَ مَنْ يُنْكِرُهُ وَمِنْ ثَمَّ كَانُوا يَقُولُونَ: مَا نَعْرِفُ الرَّحْمَنَ إِلَّا الَّذِي فِي الْيَمَامَةِ يَعْنُونَ مُسَيْلِمَةَ، وَكَانَ يُقَالُ لَهُ رَحْمَنُ الْيَمَامَةِ انْتَهَى.

وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ وَكَانَتْ قُرَيْشٌ لَا تَعْرِفُ هَذَا فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ غَالَطَتْ قُرَيْشٌ بِذَلِكَ فَقَالَتْ: إِنَّ مُحَمَّدًا يَأْمُرُنَا بِعِبَادَةِ رَحْمَنِ الْيَمَامَةِ نَزَلَتْ وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ومَا سُؤَالٌ عَنِ الْمَجْهُولِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سُؤَالًا عَنِ الْمُسَمَّى بِهِ لِأَنَّهُمْ مَا كَانُوا يَعْرِفُونَهُ بِهَذَا الِاسْمِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سُؤَالًا عَنِ مَعْنَاهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُسْتَعْمَلًا فِي كَلَامِهِمْ كَمَا يُسْتَعْمَلُ الرَّحِيمُ وَالرَّحُومُ وَالرَّاحِمُ، أَوْ لِأَنَّهُمْ أَنْكَرُوا إِطْلَاقَهُ عَلَى اللَّهِ قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُمْ لَمَّا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ فَذُكِرَتِ الصِّفَةُ الْمُقْتَضِيَةُ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الرَّحْمَةِ وَالْكَلِمَةُ عَرَبِيَّةٌ لَا يُنْكَرُ وَضْعُهَا، أَظْهَرُوا التَّجَاهُلَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ الَّتِي لِلَّهِ مُغَالَطَةً مِنْهُمْ وَوَقَاحَةً فَقَالُوا: وَمَا الرَّحْمنُ وَهُمْ عَارِفُونَ بِهِ وَبِصِفَتِهِ الرَّحْمَانِيَّةِ، وَهَذَا كَمَا قَالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ «١» حِينَ قَالَ لَهُ مُوسَى: إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ «٢» عَلَى سَبِيلِ الْمُنَاكَرَةِ وَهُوَ عَالِمٌ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ. كَمَا قَالَ مُوسَى: لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ «٣» فَكَذَلِكَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ اسْتَفْهَمُوا عَنِ الرَّحْمنُ اسْتِفْهَامَ مَنْ يَجْهَلُهُ وَهُمْ عَالِمُونَ بِهِ، فَعَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: لَمْ يَكُونُوا يَعْرِفُونَ الرَّحْمنُ إِلَّا مُسَيْلِمَةَ وَعَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: مَنْ لَا يَعْرِفُونَ الرَّحْمَنَ إِلَّا مُسَيْلِمَةَ. فَالْمَعْنَى أَنَسْجَدُ لِمُسَيْلِمَةَ وَعَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ:

لَا يَعْرِفُونَ الرَّحْمنُ بِالْكُلِّيَّةِ فَالْمَعْنَى أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ بِبَيَانِهِ. وَالْقَائِلُ اسْجُدُوا الرَّسُولُ أَوِ اللَّهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ.

وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَالْأَسْوَدُ بْنُ يَزِيدَ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ يَأْمُرُ بِالْيَاءِ مِنْ تَحْتُ أَيْ يَأْمُرُنَا مُحَمَّدٌ، وَالْكِنَايَةُ عَنْهُ أَوِ الْمُسَمَّى الرَّحْمنُ وَلَا نَعْرِفُهُ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ بِالتَّاءِ خِطَابًا لِلرَّسُولِ. وَمَفْعُولُ تَأْمُرُنا الثَّانِي مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ تَقْدِيرُهُ يَأْمُرُنَا سُجُودَهُ نَحْوَ قَوْلِهِمْ: أمرتك الخير.


(١) سورة الشعراء: ٢٦/ ٢٣.
(٢) سورة الأعراف: ٧/ ١٠٤.
(٣) سورة الإسراء: ١٧/ ١٠٢.

<<  <  ج: ص:  >  >>