للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ: مَعْنَاهُ يُعِينُنِي وَيُؤَازِرُنِي، وَكَانَ هَارُونُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَصِيحًا وَاسِعَ الصَّدْرِ، فَحُذِفَ بَعْضُ الْمُرَادِ مِنَ الْقَوْلِ، إِذْ بَاقِيهِ دَالٌّ عَلَيْهِ. انْتَهَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَعْنَى فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ: أَرْسِلْ إِلَيْهِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَاجْعَلْهُ نَبِيًّا، وَأْزُرْنِي بِهِ، وَاشْدُدْ بِهِ عَضُدِي وَهَذَا كَلَامٌ مُخْتَصَرٌ، وَقَدْ أَحْسَنَ فِي الِاخْتِصَارِ حَيْثُ قَالَ:

فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ، فَجَاءَ بِمَا يَتَضَمَّنُ مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ. وَقَوْلُهُ: إِنِّي أَخافُ إِلَى آخِرِهِ، بَعْدَ أَنْ أَمَرَهُ اللَّهُ بِأَنْ يَأْتِيَ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ، لَيْسَ تَوَقُّفًا فِيمَا أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ، وَلَكِنَّهُ طَلَبَ مِنَ اللَّهِ أَنْ يُعَضِّدَهُ بِأَخِيهِ، حَتَّى يَتَعَاوَنَا عَلَى إِنْفَاذِ أَمْرِهِ تَعَالَى، وَتَبْلِيغِ رِسَالَتِهِ، مَهَّدَ قَبْلَ طَلَبِ ذَلِكَ عُذْرَهُ ثُمَّ طَلَبَ. وَطَلَبُ الْعَوْنِ دَلِيلٌ عَلَى الْقَبُولِ لَا عَلَى التَّوَقُّفِ وَالتَّعَلُّلِ، وَمَفْعُولُ أَرْسِلْ مَحْذُوفٌ. فَقِيلَ جِبْرِيلُ، كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ،

وَفِي الْخَبَرِ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَ مُوسَى إِلَى هَارُونَ، وَكَانَ هَارُونُ بِمِصْرَ حِينَ بَعَثَ اللَّهُ مُوسَى نَبِيًّا بِالشَّامِ.

قَالَ السُّدِّيُّ: سَارَ بِأَهْلِهِ إِلَى مِصْرَ، فَالْتَقَى بِهَارُونَ وَهُوَ لَا يَعْرِفُهُ فَقَالَ: أَنَا مُوسَى، فَتَعَارَفَا وَأَمَرَهُمَا أَنْ يَنْطَلِقَا إِلَى فِرْعَوْنَ لِأَدَاءِ الرِّسَالَةِ، فَصَاحَتْ أُمُّهُمَا لِخَوْفِهَا عَلَيْهِمَا، فَذَهَبَا إِلَيْهِ.

وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ: أَيْ قِبَلِي قَوَدُ ذَنْبٍ، أَوْ عُقُوبَةٍ، وَهُوَ قَتْلُهُ الْقِبْطِيَّ الْكَافِرَ خَبَّازَ فِرْعَوْنَ بِالْوَكْزَةِ الَّتِي وَكَزَهَا، أَوْ سَمَّى تَبِعَةَ الذَّنْبِ ذَنْبًا، كَمَا سَمَّى جَزَاءَ السَّيِّئَةِ سَيِّئَةً. وَلَيْسَ قَوْلُ مُوسَى ذَلِكَ تَلَكُّأً فِي أَدَاءِ الرِّسَالَةِ، بَلْ قَالَ ذَلِكَ اسْتِدْفَاعًا لِمَا يَتَوَقَّعُهُ مِنْهُمْ مِنَ الْقَتْلِ، وَخَافَ أَنْ يُقْتَلَ قَبْلَ أَدَاءِ الرِّسَالَةِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: كَلَّا، وَهِيَ كَلِمَةُ الرَّدْعِ، ثُمَّ وَعَدَهُ تَعَالَى بِالْكَلَاءَةِ وَالدَّفْعِ. وَكَلَّا رَدٌّ لِقَوْلِهِ: إِنِّي أَخافُ، أَيْ لَا تَخَفْ ذَلِكَ، فَإِنِّي قَضَيْتُ بِنَصْرِكَ وَظُهُورِكَ. وَقَوْلُهُ: فَاذْهَبا، أَمْرٌ لَهُمَا بِخِطَابٍ لِمُوسَى فَقَطْ، لِأَنَّ هَارُونَ لَيْسَ بِمُكَلَّمٍ بِإِجْمَاعٍ، وَلَكِنَّهُ قَالَ لِمُوسَى: اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ «١» . قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: جَمْعَ اللَّهُ لَهُ الِاسْتِجَابَتَيْنِ مَعًا فِي قَوْلِهِ: كَلَّا فَاذْهَبا، لِأَنَّهُ اسْتَدْفَعَهُ بَلَاءَهُمْ، فَوَعَدَهُ الدَّفْعَ بِرَدْعِهِ عَنِ الْخَوْفِ، والتمس الموازرة بِأَخِيهِ، فَأَجَابَهُ بِقَوْلِهِ: اذْهَبْ، أَيِ اذْهَبْ أَنْتَ وَالَّذِي طَلَبْتَهُ هَارُونَ. فَإِنْ قُلْتَ: عَلَامَ عُطِفَ قَوْلَهُ اذْهَبَا؟ قُلْتُ: عَلَى الْفِعْلِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ كَلَّا، كَأَنَّهُ قِيلَ: ارْتَدِعْ يَا مُوسَى عَمَّا تَظُنُّ، فَاذْهَبْ أَنْتَ وَهَارُونُ بِآيَاتِنَا، يَعُمُّ جَمِيعَ مَا بَعَثَهُمَا اللَّهُ بِهِ، وَأَعْظَمُ ذَلِكَ الْعَصَا، وَبِهَا وَقَعَ الْعَجْزُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَلَا خِلَافَ أَنَّ مُوسَى هُوَ الَّذِي حَمَّلَهُ اللَّهُ أَمْرَ النُّبُوَّةِ وَكَلَّفَهَا، وَأَنَّ هَارُونَ كَانَ نَبِيًّا رَسُولًا مُعِينًا لَهُ وَوَزِيرًا. انْتَهَى. وَمَعَكُمْ، قِيلَ:

مِنْ وَضْعِ الْجَمْعِ مَوْضِعَ الْمُثَنَّى، أَيْ مَعَكُمَا. وَقِيلَ: هُوَ عَلَى ظَاهِرِهِ مِنَ الْجَمْعِ، والمراد


(١) سورة طه: ٢٠/ ٤٢.

<<  <  ج: ص:  >  >>