للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ، وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ، قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ، قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ، قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ، قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ، قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ، قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ، قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ، قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ، قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ، فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ، وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ.

وَيُرْوَى أَنَّهُمَا انْطَلَقَا إِلَى بَابِ فِرْعَوْنَ، وَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُمَا سَنَةً، حَتَّى قَالَ الْبَوَّابُ: إِنَّ هُنَا إِنْسَانًا يَزْعُمُ أَنَّهُ رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَقَالَ لَهُ: ائْذَنْ لَهُ لَعَلَّنَا نَضْحَكُ مِنْهُ. فَأَدَّيَا إِلَيْهِ الرِّسَالَةَ، فَعَرَفَ مُوسَى فَقَالَ لَهُ: أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً؟

وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَعْنَى تَقْدِيرُهُ: فَأَتَيَا فِرْعَوْنَ، فَقَالَا لَهُ ذَلِكَ. وَلَمَّا بَادَهَهُ مُوسَى بِأَنَّهُ رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَمَرَهُ بِإِرْسَالِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مَعَهُ، أَخَذَ يَسْتَحْقِرُهُ وَيَضْرِبُ عَنِ الْمُرْسَلِ وَعَمَّا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِهِ، وَيُذَكِّرُهُ بِحَالَةِ الصِّغَرِ وَالْمَنِّ عَلَيْهِ بِالتَّرْبِيَةِ. وَالْوَلِيدُ الصَّبِيُّ، وَهُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، أُطْلِقَ ذَلِكَ عَلَيْهِ لِقُرْبِهِ مِنَ الْوِلَادَةِ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو فِي رِوَايَةٍ: مِنْ عُمْرِكَ، بِإِسْكَانِ الْمِيمِ، وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ الْخِلَافِ فِي كَمِّيَّةِ هَذِهِ السِّنِينَ فِي طه. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَعْلَتَكَ، بِفَتْحِ الْفَاءِ، إِذْ كَانَتْ وَكْزَةً وَاحِدَةً، وَالشَّعْبِيُّ: بِكَسْرِ الْفَاءِ، يُرِيدُ الْهَيْئَةَ، لِأَنَّ الْوَكْزَةَ نَوْعٌ مِنَ الْقَتْلِ. عَدَّدَ عَلَيْهِ نِعْمَةَ التَّرْبِيَةِ وَمَبْلَغَهُ عِنْدَهُ مَبْلَغَ الرِّجَالِ، حَيْثُ كَانَ يَقْتُلُ نُظَرَاءَهُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَذَكَّرَهُ مَا جَرَى عَلَى يَدِهِ مِنْ قَتْلِ الْقِبْطِيِّ، وَعَظَّمَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ، لِأَنَّ هَذَا الْإِبْهَامَ، بِكَوْنِهِ لَمْ يُصَرِّحْ أَنَّهَا الْقَتْلُ، تَهْوِيلٌ لِلْوَاقِعَةِ وَتَعْظِيمُ شَأْنٍ. وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا، أَيْ قَتَلْتَهُ وَأَنْتَ إِذْ ذَاكَ مِنَ الْكَافِرِينَ، فَافْتَرَى فِرْعَوْنُ بِنِسْبَةِ هَذِهِ الْحَالِ إِلَيْهِ إِذْ ذَاكَ، وَالْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ مَعْصُومُونَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِخْبَارًا مُسْتَأْنَفًا مِنْ فِرْعَوْنَ، حَكَمَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ مِنَ الْكَافِرِينَ بِالنِّعْمَةِ الَّتِي لِي عَلَيْكَ مِنَ التَّرْبِيَةِ وَالْإِحْسَانِ، قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ أَوْ مِنَ الْكَافِرِينَ بِي فِي أَنَّنِي إِلَهُكَ، قَالَهُ الْحَسَنُ أَوْ مِنْ الْكَافِرِينَ بِاللَّهِ لِأَنَّكَ كُنْتَ مَعَنَا عَلَى دِينِنَا هَذَا الَّذِي تَعِيبُهُ الْآنَ، قَالَهُ السُّدِّيُّ.

قالَ فَعَلْتُها إِذاً: إِجَابَةُ مُوسَى عَنْ كَلَامِهِ الْأَخِيرِ الْمُتَضَمِّنِ لِلْقَتْلِ، إِذْ كَانَ الِاعْتِذَارُ فِيهِ أَهَمَّ مِنَ الْجَوَابِ فِي ذِكْرِ النِّعْمَةِ بِالتَّرْبِيَةِ، لِأَنَّهُ فِيهِ إِزْهَاقُ النَّفْسِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: إِذَنْ صِلَةٌ فِي الْكَلَامِ وَكَأَنَّهَا بِمَعْنَى حِينَئِذٍ. انْتَهَى. وَلَيْسَ بِصِلَةٍ، بَلْ هِيَ حَرْفُ مَعْنًى. وَقَوْلُهُ وَكَأَنَّهَا بِمَعْنَى حِينَئِذٍ، يَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ قَوْلُهُ تَفْسِيرَ مَعْنًى، إِذْ لَا يَذْهَبُ أَحَدٌ إِلَى أَنَّ إِذَنْ

<<  <  ج: ص:  >  >>