كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ، إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ، إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ، وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ، قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ، قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ، إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ، وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ، إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ، قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ، قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ، فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ، ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ.
الْقَوْمُ: مُؤَنَّثٌ مَجَازِيُّ التَّأْنِيثِ، وَيُصَغَّرُ قُوَيْمَةٌ، فَلِذَلِكَ جَاءَ: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ.
وَلَمَّا كَانَ مَدْلُولُهُ أَفْرَادًا ذُكُورًا عُقَلَاءَ، عَادَ الضَّمِيرُ عَلَيْهِ، كَمَا يَعُودُ عَلَى جَمْعِ الْمُذَكَّرِ الْعَاقِلِ. وَقِيلَ: قَوْمٌ مُذَكَّرٌ، وَأُنِّثَ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْأُمَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَتَقَدَّمَ مَعْنَى تَكْذِيبِ قَوْمِ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ، وَإِنْ كَانَ الْمُرْسَلُ إِلَيْهِمْ وَاحِدًا فِي الْفُرْقَانِ فِي قَوْلِهِ: وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ «١» ، وَإِخْوَةُ نُوحٍ قِيلَ: فِي النَّسَبِ. وَقِيلَ: فِي الْمُجَانَسَةِ، كَقَوْلِهِ:
يَا أَخَا تَمِيمٍ تُرِيدُ يَا وَاحِدَ أُمَّتِهِ وَقَالَ الشَّاعِرُ:
لَا يَسْأَلُونَ أَخَاهُمْ حِينَ يَنْدُبُهُمْ ... فِي النَّائِبَاتِ عَلَى مَا قَالَ بُرْهَانَا
وَمُتَعَلِّقُ التَّقْوَى مَحْذُوفٌ، فَقِيلَ: أَلَا تَتَّقُونَ عَذَابَ اللَّهِ وَعِقَابَهُ عَلَى شِرْكِكُمْ؟ وَقِيلَ:
أَلَا تَتَّقُونَ مُخَالَفَةَ أَمْرِ اللَّهِ فَتَتْرُكُوا عِبَادَتَكُمْ لِلْأَصْنَامِ وَأَمَانَتُهُ، كَوْنُهُ مَشْهُورًا فِي قَوْمِهِ بِذَلِكَ، أَوْ مُؤْتَمَنًا عَلَى أَدَاءِ رِسَالَةِ اللَّهِ؟ وَلَمَّا عَرَضَ عَلَيْهِمْ بِرِفْقٍ تَقْوَى اللَّهِ فَقَالَ: أَلا تَتَّقُونَ، انْتَقَلَ مِنَ الْعَرْضِ إِلَى الْأَمْرِ فَقَالَ: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ فِي نُصْحِي لَكُمْ، وَفِيمَا دَعَوْتُكُمْ إِلَيْهِ مِنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ وَإِفْرَادِهِ بالعبادة. وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ: أَيْ عَلَى دُعَائِي إِلَى اللَّهِ وَالْأَمْرِ بِتَقْوَاهُ.
وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي عَلَيْهِ يَعُودُ عَلَى النُّصْحِ، أَوْ عَلَى التَّبْلِيغِ، وَالْمَعْنَى: لَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ شَيْئًا مِنْ أَمْوَالِكُمْ. وَقَدَّمَ الْأَمْرَ بِتَقْوَى اللَّهِ عَلَى الْأَمْرِ بِطَاعَتِهِ، لِأَنَّ تَقْوَى اللَّهِ سَبَبٌ لِطَاعَةِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ. ثُمَّ كَرَّرَ الْأَمْرَ بِالتَّقْوَى وَالطَّاعَةِ، لِيُؤَكِّدَ عَلَيْهِمْ وَيُقَرِّرَ ذَلِكَ فِي نُفُوسِهِمْ، وَإِنِ اخْتَلَفَ التَّعْلِيلُ، جُعِلَ الْأَوَّلُ مَعْلُولًا لِأَمَانَتِهِ، وَالثَّانِي لِانْتِفَاءِ أَخْذِ الْأَجْرِ. ثُمَّ لَمْ يَنْظُرُوا فِي أَمْرِ رِسَالَتِهِ، وَلَا تَفَكَّرُوا فِيمَا أَمَرَهُمْ بِهِ، لِمَا جُبِلُوا عَلَيْهِ ونشؤوا مِنْ حُبِّ الرِّئَاسَةِ، وَهِيَ التي
(١) سورة الفرقان: ٢٥/ ٣٧.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute