للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: مَا الدَّاعِي إِلَى اخْتِيَارِ الْمَذْهَبِ التَّمِيمِيِّ عَلَى الْحِجَازِيِّ؟ يَعْنِي فِي كَوْنِهِ اسْتِثْنَاءً مُنْقَطِعًا، إِذْ لَيْسَ مُنْدَرِجًا تَحْتَ مَنْ، وَلَمْ أَخْتَرِ الرَّفْعَ عَلَى لُغَةِ تَمِيمٍ، وَلَمْ نَخْتَرِ النَّصْبَ عَلَى لُغَةِ الْحِجَازِ، قَالَ: قُلْتُ: دَعَتْ إِلَى ذَلِكَ نُكْتَةٌ سِرِّيَّةٌ، حَيْثُ أَخْرَجَ الْمُسْتَثْنَى مُخْرَجَ قَوْلِهِ: إِلَّا الْيَعَافِيرُ، بَعْدَ قَوْلِهِ: لَيْسَ بِهَا أنيس، ليؤول الْمَعْنَى إِلَى قَوْلِكَ: إِنْ كَانَ اللَّهُ مِمَّنْ فِي السموات وَالْأَرْضِ، فَهُمْ يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ، يَعْنِي أَنَّ عِلْمَهُمُ الْغَيْبَ فِي اسْتِحَالَتِهِ كَاسْتِحَالَةِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ مِنْهُمْ. كَمَا أَنَّ مَعْنَى: مَا فِي الْبَيْتِ إِنْ كَانَتِ الْيَعَافِيرُ أَنِيسًا، فَفِيهَا أَنِيسٌ بِنَاءً لِلْقَوْلِ بِخُلُوِّهَا عَنِ الْأَنِيسِ. انْتَهَى. وَكَانَ الزَّمَخْشَرِيُّ قَدْ قَدَّمَ قَوْلَهُ: فَإِنْ قُلْتَ: لِمَ أَرْفَعُ اسْمَ اللَّهِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ ممن في السموات وَالْأَرْضِ؟

قُلْتُ: جَاءَ عَلَى لُغَةِ بَنِي تَمِيمٍ، حَيْثُ يَقُولُونَ: مَا فِي الدَّارِ أَحَدٌ إِلَّا حِمَارٌ، كَأَنَّ أَحَدًا لَمْ يُذْكَرْ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ:

عَشِيَّةَ مَا تُغْنِي الرِّمَاحُ مَكَانَهَا ... وَلَا النَّبْلُ إِلَّا الْمَشْرَفِيُّ الْمُصَمَّمُ

وَقَوْلُهُ: مَا أَتَانِي زَيْدٌ إِلَّا عَمْرٌو، وَمَا أَعَانَهُ إِخْوَانُكُمْ إِلَّا إِخْوَانُهُ. انْتَهَى. وَمُلَخَّصُهُ أَنَّهُ يَقُولُ: لَوْ نُصِبَ لَكَانَ مُنْدَرِجًا تَحْتَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، وَإِذَا رُفِعَ كَانَ بَدَلًا، وَالْمُبْدَلُ مِنْهُ فِي نِيَّةِ الطَّرْحِ، فَصَارَ الْعَامِلُ كَأَنَّهُ مُفَرِّغٌ لَهُ، لِأَنَّ الْبَدَلَ عَلَى نِيَّةِ تَكْرَارِ الْعَامِلِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: قُلْ لَا يَعْلَمُ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ. وَلَوْ أَعْرَبَ مَنْ مفعولا، والغيب بَدَلٌ مِنْهُ، وَإِلَّا اللَّهُ هُوَ الْفَاعِلُ، أَيْ لَا يَعْلَمُ غَيْبَ مَنْ فِي السموات وَالْأَرْضِ إِلَّا اللَّهُ، أَيْ الْأَشْيَاءَ الْغَائِبَةَ الَّتِي تَحْدُثُ فِي الْعَالَمِ، وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ بِحُدُوثِهَا، أَيْ لَا يَسْبِقُ عِلْمَهُمْ بِذَلِكَ، لَكَانَ وَجْهًا حَسَنًا، وَكَانَ اللَّهُ تَعَالَى هُوَ الْمَخْصُوصُ بِسَابِقِ عِلْمِهِ فِيمَا يَحْدُثُ فِي الْعَالَمِ. وَأَيَّانَ: تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهَا فِي أَوَاخِرِ الْأَعْرَافِ، وَهِيَ هُنَا اسْمُ اسْتِفْهَامٍ بِمَعْنَى مَتَى، وَهِيَ مَعْمُولَةٌ ليبعثون ويشعرون مُعَلَّقٌ، وَالْجُمْلَةُ الَّتِي فِيهَا اسْتِفْهَامٌ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِهِ. وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ: إِيَّانَ، بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، وَهِيَ لُغَةٌ قَبِيلَتِهِ بَنِي سُلَيْمٍ. وَلَمَّا نَفَى عِلْمَ الْغَيْبِ عَنْهُمْ عَلَى الْعُمُومِ، نَفَى عَنْهُمْ هَذَا الْغَيْبَ الْمَخْصُوصَ، وَهُوَ وَقْتُ السَّاعَةِ وَالْبَعْثِ، فَصَارَ مُنْتَفِيًا مَرَّتَيْنِ، إِذْ هُوَ مُنْدَرِجٌ فِي عُمُومِ الْغَيْبِ وَمَنْصُوصٌ عَلَيْهِ بِخُصُوصِهِ.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بَلِ ادَّارَكَ، أَصْلُهُ تَدَارَكَ، فَأُدْغِمَتِ التَّاءَ فِي الدَّالِ فَسُكِّنَتْ، فَاجْتُلِبَتْ هَمْزَةُ الْوَصْلِ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ: أَمْ تَدَارَكَ، عَلَى الْأَصْلِ، وَجَعَلَ أَمْ بَدَلَ. وَقَرَأَ سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ أَخُوهُ: بَلِ ادَّرَكَ، بِنَقْلِ حَرَكَةِ الْهَمْزَةِ إِلَى اللَّامِ، وَشَدِّ الدَّالِ بِنَاءً عَلَى أَنْ وَزَنَهُ افْتَعَلَ، فَأَدْغَمَ الدَّالَ، وَهِيَ فَاءُ الْكَلِمَةِ فِي التَّاءِ بَعْدَ قَلْبِهَا دَالًا، فَصَارَ قَلْبُ الثَّانِي

<<  <  ج: ص:  >  >>