فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ: ظَاهِرُهُ أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: اسْتَكْبَرْتُمْ، فَنَشَأَ عَنِ الِاسْتِكْبَارِ مُبَادَرَةُ فَرِيقٍ مِنَ الرُّسُلِ بِالتَّكْذِيبِ فَقَطْ، حَيْثُ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى قَتْلِهِ، وَفَرِيقٍ بِالْقَتْلِ إِذَا قَدَرُوا عَلَى قَتْلِهِ. وَتَهَيَّأَ لَهُمْ ذَلِكَ، وَيُضَمَّنُ أَنَّ مَنْ قَتَلُوهُ فَقَدْ كَذَّبُوهُ. وَاسْتَغْنَى عَنِ التَّصْرِيحِ بِتَكْذِيبِهِ لِلْعِلْمِ بِذَلِكَ، فَذَكَرَ أَقْبَحَ أَفْعَالِهِمْ مَعَهُ، وَهُوَ قَتْلُهُ. وَأَجَازَ أَبُو الْقَاسِمِ الرَّاغِبُ أَنْ يَكُونَ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ: وَأَيَّدْناهُ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: أَفَكُلَّمَا مَعَ مَا بَعْدَهُ فَصْلًا بَيْنَهُمَا عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ. وَالْأَظْهَرُ فِي تَرْتِيبِ الْكَلَامِ الْأَوَّلُ، وَهَذَا أَيْضًا مُحْتَمَلٌ، وَأُخِّرَ الْعَامِلُ وَقُدِّمَ الْمَفْعُولُ ليتواخى رؤوس الْآيِ، وَثَمَّ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: فَفَرِيقًا مِنْهُمْ كَذَّبْتُمْ، وَبَدَأَ بِالتَّكْذِيبِ لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَا يَفْعَلُونَهُ مِنَ الشَّرِّ، وَلِأَنَّهُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ: الْمُكَذَّبِ وَالْمَقْتُولِ.
وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ: وَأَتَى بِفِعْلِ الْقَتْلِ مُضَارِعًا، إِمَّا لكونه حكيت أنه الْحَالُ الْمَاضِيَةُ، إِنْ كَانَتْ أُرِيدَتْ فَاسْتُحْضِرَتْ فِي النُّفُوسِ، وَصُوِّرَ حَتَّى كَأَنَّهُ مُلْتَبِسٌ بِهِ مَشْرُوعٌ فِيهِ، وَلِمَا فيه من مناسبة رؤوس الْآيِ الَّتِي هِيَ فَوَاصِلُ، وَإِمَّا لِكَوْنِهِ مُسْتَقْبَلًا، لِأَنَّهُمْ يَرُومُونَ قَتْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلِذَلِكَ سَحَرُوهُ وَسَمُّوهُ.
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ مَوْتِهِ: «مَا زَالَتْ أَكْلَةُ خَيْبَرَ تُعَاوِدُنِي فَهَذَا أَوَانُ انْقِطَاعِ أَبْهَرِي» .
وَكَانَ فِي ذَلِكَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ عَادَتَهُمْ قَتْلُ أَنْبِيَائِهِمْ، لِأَنَّ هَذَا النَّبِيَّ الْمَكْتُوبَ عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، وَقَدْ أُمِرُوا بِالْإِيمَانِ بِهِ وَالنَّصْرِ لَهُ، يَرُومُونَ قَتْلَهُ. فَكَيْفَ مَنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ تَقَدُّمُ عَهْدٍ مِنَ اللَّهِ؟ فَقَتْلُهُ عِنْدَهُمْ أَوْلَى.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ: كَانُوا يَقْتُلُونَ فِي الْيَوْمِ ثَلَاثَمِائَةِ نَبِيٍّ، ثُمَّ تَقُومُ سُوقُهُمْ آخِرَ النَّهَارِ. وَرُوِيَ سَبْعِينَ نَبِيًّا، ثُمَّ تَقُومُ سُوقُ نَقْلِهِمْ آخِرَ النَّهَارِ.
وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ: الضَّمِيرُ فِي قَالُوا عَائِدٌ عَلَى الْيَهُودِ، وَهُمْ أَبْنَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ كَانُوا بِحَضْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالُوا ذَلِكَ بُهْتًا وَدَفْعًا لَمَّا قَامَتْ عَلَيْهِمُ الْحُجَجُ وَظَهَرَتْ لَهُمُ الْبَيِّنَاتُ، وَأَعْجَزَتْهُمْ عَنْ مُدَافَعَةِ الْحَقِّ الْمُعْجِزَاتُ. نَزَلُوا عَنْ رُتْبَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ إِلَى رُتْبَةِ الْبَهِيمِيَّةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: غُلْفٌ، بِإِسْكَانِ اللَّامِ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى سُكُونِ اللَّامِ، أَهُوَ سُكُونٌ أَصْلِيٌّ فَيَكُونُ جَمْعَ أَغْلَفَ؟ أَمْ هُوَ سُكُونُ تَخْفِيفٍ فَيَكُونُ جَمْعَ غِلَافٍ؟ وَأَصْلُهُ الضَّمُّ، كَحِمَارٍ وَحُمُرٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهُنَا يُشِيرُ إِلَى أَنَّ التَّخْفِيفَ مِنَ التَّثْقِيلِ قَلَّمَا يُسْتَعْمَلُ إِلَّا فِي الشِّعْرِ. وَنَصَّ ابْنُ مَالِكٍ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ التَّسْكِينُ فِي نَحْوِ: حُمُرٍ جَمْعَ حِمَارٍ، دُونَ ضَرُورَةٍ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْأَعْرَجُ، وَابْنُ هُرْمُزَ، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ، غُلُفٌ: بِضَمِّ اللَّامِ، وَهِيَ مَرْوِيَّةٌ عَنْ أَبِي عَمْرٍو، وَهُوَ جَمْعُ غِلَافٍ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ جَمْعَ أَغْلَفَ،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute