حَيَازِيمَكَ وَارْبُطْ جَأْشَكَ، أَيْ شِمِّرْ فِي أَمْرِكَ وَدَعِ الرَّهْبَ، وَذَلِكَ لَمَّا كَثُرَ تَخَوُّفُهُ وَفَزَعُهُ فِي غَيْرِ مَوْطِنٍ، قَالَهُ أَبُو عَلِيٍّ، وَكَأَنَّهُ طَيَّرَهُ الْفَزَعُ، وَآلَةُ الطَّيَرَانِ الْجَنَاحُ. فَقِيلَ لَهُ: اسْكُنْ وَلَا تَخَفْ، وَضُمَّ مَنْشُورَ جَنَاحِكَ مِنَ الْخَوْفِ إِلَيْكَ، وَذَكَرَ هَذَا الْقَوْلَ الزَّمَخْشَرِيُّ، فَقَالَ وَالثَّانِي أَنْ يُرَادَ بِضَمِّ جَنَاحِهِ إِلَيْهِ: تَجَلُّدُهُ وَضَبْطُهُ نَفْسَهُ وَتَشَدُّدُهُ عِنْدَ انْقِلَابِ الْعَصَا حَيَّةً، حَتَّى لَا يَضْطَرِبَ وَلَا يَرْهَبَ، اسْتِعَارَةً مِنْ فِعْلِ الطَّائِرِ، لِأَنَّهُ إِذَا خَافَ نَشَرَ جَنَاحَيْهِ وَأَرْخَاهُمَا، وَإِلَّا فَجَنَاحَاهُ مَضْمُومَانِ إِلَيْهِ مُشَمَّرَانِ. وَمَعْنَى مِنَ الرَّهْبِ: مِنْ أَجْلِ الرَّهْبِ، أَيْ إِذَا أَصَابَكَ الرَّهْبُ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْحَيَّةِ، فَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ. جَعَلَ الرَّهْبَ الَّذِي كَانَ يُصِيبُهُ سَبَبًا وَعِلَّةً فِيمَا أُمِرَ بِهِ مِنْ ضَمِّ جَنَاحِهِ إِلَيْهِ. وَمَعْنَى: وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ، وَقَوْلُهُ: اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ عَلَى أَحَدِ التَّفْسِيرَيْنِ وَاحِدٌ، وَلَكِنْ خُولِفَ بَيْنَ الْعِبَارَتَيْنِ، وَإِنَّمَا كُرِّرَ الْمَعْنَى الْوَاحِدُ لِاخْتِلَافِ الْغَرَضَيْنِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْغَرَضَ فِي أَحَدِهِمَا خُرُوجُ الْيَدِ بَيْضَاءَ، وَفِي الثَّانِي إِخْفَاءُ الرَّهْبِ. فَإِنْ قُلْتَ: قَدْ جُعِلَ الْجَنَاحُ، وَهُوَ الْيَدُ، فِي أَحَدِ الْمَوْضِعَيْنِ مَضْمُومًا وَفِي الْآخَرِ مَضْمُومًا إِلَيْهِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ، وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ «١» ، فَمَا التَّوْفِيقُ بَيْنَهُمَا؟ قُلْتُ: الْمُرَادُ بِالْجَنَاحِ الْمَضْمُومِ هُوَ الْيَدُ الْيُمْنَى، وَبِالْمَضْمُومِ إِلَيْهِ الْيَدُ الْيُسْرَى، وَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ يُمْنَى الْيَدَيْنِ وَيُسْرَاهُمَا جَنَاحٌ. وَمِنْ بِدَعِ التَّفَاسِيرِ أَنَّ الرَّهْبَ: الْكُمُّ، بِلُغَةِ حِمْيَرَ، وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ: أَعْطِنِي مَا فِي رَهْبِكَ وَلَيْتَ شِعْرِي كَيْفَ صِحَّتُهُ فِي اللُّغَةِ؟ وَهَلْ سُمِعَ مِنَ الْأَثْبَاتِ الثِّقَاتِ الَّتِي تُرْضَى عَرَبِيَّتُهُمْ؟ ثُمَّ لَيْتَ شِعْرِي: كَيْفَ مَوْقِعُهُ فِي الْآيَةِ؟ وَكَيْفَ يُعْطِيهِ الْفَصْلُ كَسَائِرِ كَلِمَاتِ التَّنْزِيلِ؟ عَلَى أَنَّ مُوسَى، صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ، مَا كَانَ عَلَيْهِ ليلة المناجاة إلّا زرماتقة مِنْ صُوفٍ، لَا كُمَّيْنِ لَهَا. انْتَهَى. أَمَّا قَوْلُهُ: وهل سمع من الأثبات؟ وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنِ الْأَصْمَعِيِّ، وَهُوَ ثِقَةٌ ثَبْتٌ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: كَيْفَ مَوْقِعُهُ مِنَ الْآيَةِ؟ فَقَالُوا: مَعْنَاهُ أَخْرِجْ يَدَكَ مِنْ كُمِّكَ، وَكَانَ قَدْ أَخَذَ الْعَصَا بِالْكُمِّ. وَقَرَأَ الْحَرَمِيَّانِ، وَأَبُو عَمْرٍو: مِنَ الرَّهَبِ، بِفَتْحِ الرَّاءِ وَالْهَاءِ وَحَفْصٌ: بِفَتْحِ الرَّاءِ وَسُكُونِ الْهَاءِ وَبَاقِي السَّبْعَةِ: بِضَمِّ الرَّاءِ وَإِسْكَانِ الْهَاءِ. وَقَرَأَ قَتَادَةُ، وَالْحَسَنُ، وَعِيسَى، وَالْجَحْدَرِيُّ: بِضَمِّهِمَا.
فَذانِكَ: إِشَارَةٌ إِلَى الْعَصَا وَالْيَدِ، وَهُمَا مُؤَنَّثَتَانِ، وَلَكِنْ ذُكِّرَا لِتَذْكِيرِ الْخَبَرِ، كَمَا أَنَّهُ قَدْ يُؤَنَّثُ الْمُذَكَّرُ لِتَأْنِيثِ الْخَبَرِ، كَقِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ: ثُمَّ لَمْ يَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا، بِالْيَاءِ فِي تَكُنْ. بُرْهانانِ: حُجَّتَانِ نَيِّرَتَانِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو: فَذَانِّكَ، بِتَشْدِيدِ النُّونِ وَبَاقِي السَّبْعَةِ: بِتَخْفِيفِهَا. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَعِيسَى، وَأَبُو نَوْفَلٍ، وَابْنُ هُرْمُزَ، وَشِبْلٌ:
(١) سورة طه: ٢٠/ ٢٢.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute