جعل كل واحد منهما، فَبَدَأَ بِعِلَّةِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ اللَّيْلُ، وَهُوَ: لِتَسْكُنُوا فِيهِ، ثُمَّ بِعِلَّةِ الثَّانِي وَهُوَ: وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ، ثُمَّ بِمَا يُشْبِهُ الْعِلَّةَ لِجَعْلِ هَذَيْنِ الشَّيْئَيْنِ وَهُوَ: لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ، أَيْ هَذِهِ الرَّحْمَةَ وَالنِّعْمَةَ. وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ عِلْمِ الْبَدِيعِ يُسَمَّى التَّفْسِيرَ، وَهُوَ أَنْ تَذْكُرَ أَشْيَاءَ ثُمَّ تُفَسِّرَهَا بِمَا يُنَاسِبُهَا، وَمِنْهُ قَوْلُ ابْنِ جُيُوشٍ:
وَمُقَرْطَقٌ يُغْنِي النَّدِيمَ بِوَجْهِهِ ... عَنْ كَأْسِهِ الْمَلْأَى وَعَنْ إِبْرِيقِهِ
فِعْلُ الْمُدَامِ وَلَوْنُهَا وَمَذَاقُهَا ... فِي مُقْلَتَيْهِ وَوَجْنَتَيْهِ وَرِيقِهِ
وَالضَّمِيرُ فِي فِيهِ عَائِدٌ عَلَى اللَّيْلِ، وَفِي فَضْلِهِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَائِدًا عَلَى اللَّهِ، وَالتَّقْدِيرُ: مِنْ فَضْلِهِ، أَيْ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ فِيهِ، أَيْ فِي النَّهَارِ وَحُذِفَ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى، وَلِدَلَالَةِ لَفْظِ فِيهِ السَّابِقِ عَلَيْهِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ عَلَى النَّهَارِ، أَيْ مِنْ فَضْلِ النَّهَارِ، وَيَكُونُ أَضَافَهُ إِلَى ضَمِير النَّهَارِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ. لَمَّا كَانَ الْفَضْلُ حَاصِلًا فِيهِ، أُضِيفَ إِلَيْهِ، كَقَوْلِهِ: بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ «١» .
وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ، وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ، إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ، وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ، قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ، فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ، وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً وَلا يُلَقَّاها إِلَّا الصَّابِرُونَ، فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ، وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ.
تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى قَوْلِهِ: وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ: وَكُرِّرَ هُنَا عَلَى جِهَةِ الْإِبْلَاغِ وَالتَّأْكِيدِ.
وَنَزَعْنا: أَيْ مَيَّزْنَا وَأَخْرَجْنَا بِسُرْعَةٍ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ. شَهِيداً: وَهُوَ نبي تلك
(١) سورة سبأ: ٣٤/ ٣٣.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute