للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: هُوَ مَقْلُوبٌ وَأَصْلُهُ: لَتَنُوءُ بِهَا الْعُصْبَةُ، أَيْ تَنْهَضُ، وَالْقَلْبُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا بَابُهُ الشِّعْرُ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْبَاءَ لِلتَّعْدِيَةِ، أَيْ لَتُنِيءُ الْعُصْبَةَ، كَمَا تَقُولُ: ذَهَبْتُ بِهِ وَأَذْهَبْتُهُ، وَجِئْتُ بِهِ وَأَجَأْتُهُ. وَنُقِلَ هَذَا عَنِ الْخَلِيلِ وَسِيبَوَيْهِ وَالْفَرَّاءِ، وَاخْتَارَهُ النَّحَّاسُ، وَرُوِيَ مَعْنَاهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي صَالِحٍ وَالسُّدِّيِّ، وَتَقُولُ الْعَرَبُ: نَاءَ الْحِمْلُ بِالْبَعِيرِ إِذَا أَثْقَلَهُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُسْنَدَ تَنُوءُ إِلَى الْمَفَاتِحِ، لِأَنَّهَا تَنْهَضُ بِتَحَامُلٍ إِذَا فَعَلَ ذَلِكَ الَّذِي يَنْهَضُ بِهَا، وَذَا مُطَّرِدٌ فِي نَاءَ الْحِمْلُ بِالْبَعِيرِ وَنَحْوِهِ، فَتَأَمَّلْهُ. وَقَرَأَ بُدَيْلُ بْنُ مَيْسَرَةَ: لَيَنُوءُ، بِالْيَاءِ، وَتَذْكِيرِهِ رَاعَى الْمُضَافَ الْمَحْذُوفَ، التَّقْدِيرُ: مَا إِنَّ حَمْلَ مَفَاتِحِهِ، أَوْ مِقْدَارِهَا، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَوَجْهُهُ أَنْ يُفَسَّرَ الْمَفَاتِحُ بِالْخَزَائِنِ، وَيُعْطِيَهَا حُكْمَ مَا أُضِيفَ إِلَيْهِ لِلْمُلَابَسَةِ وَالْإِيصَالِ، كَقَوْلِهِ: ذَهَبَتْ أَهْلُ الْيَمَامَةِ. انْتَهَى. يَعْنِي: أَنَّهُ اكْتَسَبَ الْمَفَاتِحُ التَّذْكِيرَ مِنَ الضَّمِيرِ الَّذِي لِقَارُونَ، كَمَا اكْتَسَبَ أَهْلٌ التَّأْنِيثَ مِنْ إِضَافَتِهِ إِلَى الْيَمَامَةِ، فَقِيلَ فِيهِ، ذَهَبَتْ. وَذَكَرَ أَبُو عَمْرٍو الدَّانِيُّ إِنَّ بُدَيْلَ بْنَ مَيْسَرَةَ قَرَأَ: مَا إِنَّ مِفْتَاحَهُ، عَلَى الْإِفْرَادِ، فَلَا تَحْتَاجُ قِرَاءَتُهُ لَيَنُوءُ بِالْيَاءِ إِلَى تَأْوِيلٍ. وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْعُصْبَةِ فِي سُورَةِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ.

وَتَقَدَّمَ قَبْلَ تَفْسِيرِ الْمَفَاتِحِ، أَهِيَ الْمَقَالِيدُ، أَوِ الْخَزَائِنُ نَفْسُهَا، أَوِ الظُّرُوفُ وَالْأَوْعِيَةُ؟ وَعَنِ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ: أَنَّ الْمَفَاتِحَ هِيَ الْأَمْوَالُ.

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَتْ خَزَائِنُهُ تَحْمِلُهَا أَرْبَعُونَ أَقْوِيَاءُ، وَكَانَتْ أَرْبَعَمِائَةِ أَلْفٍ، يَحْمِلُ كُلُّ رَجُلٍ عَشَرَةَ آلَافٍ. وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: الْمُرَادُ مِنَ الْمَفَاتِحِ: الْعِلْمُ وَالْإِحَاطَةُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:

وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ «١» ، وَالْمُرَادُ: وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ، مَا إِنَّ حِفْظَهَا وَالِاطِّلَاعَ عَلَيْهَا لَيَثْقُلُ عَلَى الْعُصْبَةِ، أَيْ هَذِهِ الْكُنُوزُ لِكَثْرَتِهَا وَاخْتِلَافِ أَصْنَافِهَا، يُتْعِبُ حِفْظُهَا الْقَائِمِينَ عَلَى حِفْظِهَا. إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ: نَهَوْهُ عَنِ الْفَرَحِ الْمُطْغِي الَّذِي هُوَ انْهِمَاكٌ وَانْحِلَالُ نَفْسٍ وَأَشَرٌ وَإِعْجَابٌ، وَإِنَّمَا يَفْرَحُ بِإِقْبَالِ الدُّنْيَا عَلَيْهِ مَنِ اطْمَأَنَّ إِلَيْهَا وَغَفَلَ عَنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ، وَمَنْ جَعَلَ أَنَّهُ مُفَارِقُ زَهْرَةِ الدُّنْيَا عَنْ قَرِيبٍ، فَلَا يَفْرَحُ بِهَا. وَقَالَ أَبُو الطَّيِّبِ:

أَشَدُّ الْغَمِّ عِنْدِي فِي سُرُورٍ ... تَيَقَّنَ عَنْهُ صَاحِبُهُ انْتِقَالًا

قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَحَلٌّ إِذْ منصوب بتنوء. انْتَهَى، وَهَذَا ضَعِيفٌ جِدًّا، لِأَنَّ إِثْقَالَ الْمَفَاتِحِ الْعُصْبَةَ لَيْسَ مُقَيَّدًا بِوَقْتِ قَوْلِ قَوْمِهِ لَهُ: لَا تَفْرَحْ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: فَبَغى عَلَيْهِمْ، وَهُوَ ضَعِيفٌ أَيْضًا، لِأَنَّ بَغْيَهُ عَلَيْهِمْ لَمْ يَكُنْ مُقَيَّدًا بذلك الوقت.


(١) سورة الأنعام: ٦/ ٥٩.

<<  <  ج: ص:  >  >>