بُعِثَ وَحِينَ مَاتَ، اخْتِلَافًا مُضْطَرِبًا مُتَكَاذِبًا، تَرَكْنَا حِكَايَتَهُ فِي كِتَابِنَا، وَهُوَ فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ. وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنَ الْأَلْفِ اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ الِاسْتِثْنَاءِ مِنَ الْعَدَدِ، وَفِي كَوْنِهِ ثَابِتًا مِنْ لِسَانِ الْعَرَبِ خِلَافٌ مَذْكُورٌ فِي النَّحْوِ، وَقَدْ عَمِلَ الْفُقَهَاءُ الْمَسَائِلَ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ، وَغَايَرَ بَيْنَ تَمْيِيزِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ وَتَمْيِيزِ الْمُسْتَثْنَى، لِأَنَّ التَّكْرَارَ فِي الْكَلَامِ الْوَاحِدِ مُجْتَنَبٌ فِي الْبَلَاغَةِ، إِلَّا إِذَا كَانَ لِغَرَضٍ مِنْ تَفْخِيمٍ، أَوْ تَهْوِيلٍ، أَوْ تَنْوِيهٍ. وَلِأَنَّ التَّعْبِيرَ عَنِ الْمُدَّةِ الْمَذْكُورَةِ بِمَا عُبِّرَ بِهِ، لِأَنَّ ذِكْرَ رَأْسِ الْعَدَدِ الَّذِي لَا رَأْسَ أَكْبَرُ مِنْهُ أَوْقَعُ وَأَوْصَلُ إِلَى الْغَرَضِ مِنَ اسْتِطَالَةِ السَّامِعِ مُدَّةَ صَبْرِهِ، وَلِإِزَالَةِ التَّوَهُّمِ الَّذِي يَجِيءُ مَعَ قَوْلِهِ: تِسْعُمِائَةٍ وَخَمْسُونَ عَامًا، بِأَنَّ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ لَا التَّمَامِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ يَرْفَعُ ذَلِكَ التَّوَهُّمَ الْمَجَازِيَّ.
وَتَقَدَّمَتْ وَقْعَةُ نُوحٍ بِأَكْمَلِ مِمَّا هُنَا، وَالْخِلَافُ فِي عَدَدِ مَنْ آمَنَ وَدَخَلَ السَّفِينَةَ.
وَالضَّمِيرُ فِي وَجَعَلْناها يُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ عَلَى السَّفِينَةِ، وَأَنْ يَعُودَ عَلَى الْحَادِثَةِ وَالْقِصَّةِ، وَأَفْرَدَ آيَةً وَجَاءَ بِالْفَاصِلَةِ لِلْعالَمِينَ، لِأَنَّ إِنْجَاءَ السُّفُنِ أَمْرٌ مَعْهُودٌ. فَالْآيَةُ إِنْجَاؤُهُ تَعَالَى أَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَقْتَ الْحَاجَةِ، وَلِأَنَّهَا بَقِيَتْ أَعْوَامًا حَتَّى مَرَّ عَلَيْهَا النَّاسُ وَرَأَوْهَا، فَحَصَلَ الْعِلْمُ بِهَا لَهُمْ، فَنَاسَبَ ذَلِكَ قَوْلَهُ: لِلْعالَمِينَ، وَانْتَصَبَ إِبْراهِيمَ عَطْفًا عَلَى نُوحاً. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَوْ عَلَى الضَّمِيرِ فِي فَأَنْجَيْناهُ. وَقَالَ هُوَ وَالزَّمَخْشَرِيُّ: بِتَقْدِيرِ اذْكُرُوا بَدَلٍ مِنْهُ، إِذْ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْهُ، لِأَنَّ الْأَحْيَانَ تَشْتَمِلُ عَلَى مَا فِيهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا أَنَّ إِذْ ظَرْفٌ لَا يَتَطَرَّفُ، فَلَا يَكُونُ مَفْعُولًا بِهِ، وَقَدْ كَثُرَ تَمْثِيلُ الْمُعْرِبِينَ، إِذْ فِي الْقُرْآنِ بِأَنَّ الْعَامِلَ فِيهَا اذْكُرْ، وَإِذَا كَانَتْ ظَرْفًا لِمَا مَضَى، فَهُوَ لَوْ كَانَ مُنْصَرِفًا، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ معمولا لأذكر، لِأَنَّ الْمُسْتَقْبَلَ لَا يَقَعُ فِي الْمَاضِي، لَا يَجُوزُ ثُمَّ أَمْسِ، فَإِنْ كَانَ خُلِعَ مِنَ الظَّرْفِيَّةِ الْمَاضِيَةِ وَتَصَرَّفَ فِيهِ، جَازَ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا بِهِ وَمَعْمُولًا لأذكر. وَقَرَأَ النَّخَعِيُّ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَإِبْرَاهِيمُ: بِالرَّفْعِ، أَيْ: وَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِبْرَاهِيمُ. وَهَذِهِ الْقِصَّةُ تَمْثِيلٌ لِقُرَيْشٍ، وَتَذْكِيرٌ لِحَالِ أَبِيهِمْ إِبْرَاهِيمَ مِنْ رَفْضِ الْأَصْنَامِ، وَالدَّعْوَى إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ، وَكَانَ نَمْرُوذُ وَأَهْلُ مَدِينَتِهِ عُبَّادَ أَصْنَامٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَتَخْلُقُونَ، مُضَارِعَ خَلَقَ، إِفْكاً، بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الْفَاءِ. وَقَرَأَ عَلِيٌّ، وَالسُّلَمِيُّ، وَعَوْنٌ الْعُقَيْلِيُّ، وَعُبَادَةُ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: بِفَتْحِ التَّاءِ وَالْخَاءِ وَاللَّامِ مُشَدَّدَةً. قَالَ ابْنُ مُجَاهِدٍ: رُوِيَتْ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، أَصْلُهُ: تَتَخَلَّقُونَ، بِتَاءَيْنِ، فَحُذِفَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي فِي الْمَحْذُوفَةِ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ أَيْضًا، فِيمَا ذَكَرَ الْأَهْوَازِيُّ: تُخَلِّقُونَ، مِنْ خَلَّقَ الْمُشَدَّدِ. وَقَرَأَ ابْنُ الزُّبَيْرِ، وَفُضَيْلُ بْنُ زُرْقَانَ: أَفِكًا، بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الْفَاءِ، وَهُوَ مَصْدَرٌ مِثْلُ الْكَذِبِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute