للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بَعْدِ الْفَاءِ. وَاللَّامُ فِي وَلَئِنْ مُؤْذِنَةٌ بِقَسَمٍ مَحْذُوفٍ وَجَوَابُهُ لَظَلُّوا، وَهُوَ مِمَّا وُضِعَ فِيهِ الْمَاضِي مَوْضِعَ الْمُسْتَقْبَلِ اتِّسَاعًا تَقْدِيرُهُ: لَيَظَلُّنَّ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ «١» : أَيْ مَا يَتَّبِعُونَ ذَمَّهُمْ تَعَالَى فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِمْ، كَانَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَتَوَكَّلُوا عَلَى فَضْلِ اللَّهِ فَقَنِطُوا، وَإِنْ شَكَرُوا نِعْمَتَهُ فَلَمْ يَزِيدُوا عَلَى الْفَرَحِ وَالِاسْتِبْشَارِ، وَإِنْ تَصْبِرُوا عَلَى بَلَائِهِ كَفَرُوا. وَالضَّمِيرُ فِي مِنْ بَعْدِهِ عَائِدٌ عَلَى الِاصْفِرَارِ، أَيْ مِنْ بَعْدِ اصْفِرَارِ النَّبَاتِ تَجْحَدُونَ نِعْمَتَهُ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى قَوْلِهِ: فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتى إِلَى قَوْلِهِ: فَهُمْ مُسْلِمُونَ فِي أَوَاخِرِ النَّمْلِ، إِلَّا أَنَّ هُنَا الرَّبْطَ بِالْفَاءِ فِي قَوْلِهِ:

فَإِنَّكَ.

اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ، وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ، وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ، فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ، وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ، كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ، فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ.

لَمَّا ذَكَرَ دَلَائِلَ الْآفَاقِ، ذَكَرَ شَيْئًا مِنْ دَلَائِلِ الْأَنْفُسِ، وَجَعَلَ الْخَلْقَ مِنْ ضَعْفٍ، لِكَثْرَةِ ضَعْفِ الْإِنْسَانِ أَوَّلَ نَشْأَتِهِ وَطُفُولِيَّتِهِ، كَقَوْلِهِ: خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ «٢» . وَالْقُوَّةُ الَّتِي تَلَتِ الضَّعْفَ، هِيَ رَعْرَعَتُهُ وَنَمَاؤُهُ وَقُوَّتُهُ إِلَى فَصْلِ الِاكْتِهَالِ. وَالضَّعْفُ الَّذِي بَعْدَ الْقُوَّةِ هُوَ حَالُ الشَّيْخُوخَةِ وَالْهَرَمِ. وَقِيلَ: مِنْ ضَعْفٍ: مِنَ النُّطْفَةِ، كَقَوْلِهِ: مِنْ ماءٍ مَهِينٍ «٣» .

وَالتَّرْدَادُ فِي هَذِهِ الْهَيْئَاتِ شَاهِدٌ بِقُدْرَةِ الصَّانِعِ وَعِلْمِهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِضَمِّ الضَّادِ فِي ضُعْفٍ مَعًا وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ: بِفَتْحِهَا فِيهِمَا، وَهِيَ قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ وَأُبَيٍّ رجاء. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَالْجَحْدَرِيِّ وَالضَّحَّاكِ: الضَّمُّ وَالْفَتْحُ فِي الثَّانِي. وَقَرَأَ عِيسَى: بِضَمَّتَيْنِ فِيهِمَا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّعْفَ وَالْقُوَّةَ هُمَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا عَدَا الْبَدَنِ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنَّ الضَّمَّ وَالْفَتْحَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ فِي ضَعْفٍ. وَقَالَ كَثِيرٌ مِنَ اللُّغَوِيِّينَ: الضَّمُّ فِي الْبَدَنِ، وَالْفَتْحُ فِي الْعَقْلِ. مَا لَبِثُوا: هُوَ جَوَابٌ، وَهُوَ عَلَى الْمَعْنَى، إِذْ لَوْ حَكَى قَوْلَهُمْ، كَانَ يكون


(١) سورة البقرة: ٢/ ١٤٥.
(٢) سورة الأنبياء: ٢١/ ٣٧.
(٣) سورة السجدة: ٣٢/ ٨، وسورة المرسلات: ٧٧/ ٢٠.

<<  <  ج: ص:  >  >>