للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أَلْفِ عَبْدٍ، فَشَهَرُوا سُيُوفَهُمْ لَمَّا هُجِمَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: من أعمد سَيْفَهُ فَهُوَ حُرٌّ. فَصَبَرَ حَتَّى قُتِلَ. وَأَمَّا سَعِيدٌ، فَإِنَّ الْمُوَكَّلِينَ بِهِ، لِمَا طَلَبَهُ الْحَجَّاجُ، لمَّا شَاهَدُوا مِنْ لِيَاذِ السِّبَاعِ بِهِ وَتَمَسُّحِهَا بِهِ، قَالُوا: لَا نَدْخُلُ فِي إِرَاقَةِ دَمِ هَذَا الرَّجُلِ الصَّالِحِ، قَالُوا لَهُ: طَلَبَكَ لِيَقْتُلَكَ، فَاذْهَبْ حَيْثُ شِئْتَ، وَنَحْنُ نَكُونُ فداءك. فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ، إِنِّي سَأَلْتُ رَبِّي الشَّهَادَةَ، وَقَدْ رَزَقَنِيهَا، وَاللَّهِ لَا بَرِحْتُ.

وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ تَمَنَّوُا الْمَوْتَ لَغَصَّ كُلُّ إِنْسَانٍ بِرِيقِهِ فَمَاتَ مَكَانَهُ وَمَا بَقِيَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ يَهُودِيٌّ» .

وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ نَبِيَّهُ أَنْ يَدْعُوَهُمْ إِلَى تَمَنِّي الْمَوْتِ، وَأَنْ يُعْلِمَهُمْ أَنَّهُ مَنْ تَمَنَّاهُ مِنْهُمْ مَاتَ. فَفَعَلَ النبي صلى الله عليه وَسَلَّمَ ذَلِكَ، فَعَلِمَ الْيَهُودُ صِدْقَهُ، فَأَحْجَمُوا عَنْ تَمَنِّيهِ فَرَقًا مِنَ اللَّهِ.

وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ: هَذَا مِنَ الْمُعْجِزَاتِ، لِأَنَّهُ إِخْبَارٌ بِالْغَيْبِ، وَنَظِيرُهُ مِنَ الْإِخْبَارِ بِالْمُغَيَّبِ قَوْلُهُ: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا «١» ، وَظَاهِرُهُ أَنَّ مَنِ ادَّعَى أَنَّ الْجَنَّةَ خَالِصَةٌ لَهُ دُونَ النَّاسِ مِمَّنِ انْدَرَجَ تَحْتَ الْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ: قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً، لَا يُمْكِنُ أَنْ يُتَمَنَّى الْمَوْتَ أَبَدًا، وَلِذَلِكَ كَانَ حَرْفُ النَّفْيِ هُنَا لَنْ الَّذِي قَدِ ادُّعِيَ فِيهِ أَنَّهُ يَقْتَضِي النَّفْيَ عَلَى التَّأْبِيدِ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: أَبَدًا، عَلَى زَعْمِ مَنِ ادَّعَى ذَلِكَ لِلتَّوْكِيدِ. وَأَمَّا مَنِ ادَّعَى أَنَّهُ بِمَعْنَى لَا، فَيَكُونُ أَبَدًا إِذْ ذَاكَ مُفِيدًا لِاسْتِغْرَاقِ الْأَزْمَانِ.

وَيَعْنِي بِالْأَبَدِ هُنَا: مَا يُسْتَقْبَلُ مِنْ زَمَانِ أَعْمَارِهِمْ.

وَفِي الْمُنْتَخَبِ مَا نَصُّهُ: وَإِنَّمَا قَالَ هُنَا: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ، وَفِي الْجُمُعَةِ وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ «٢» ، لِأَنَّ دَعْوَاهُمْ هُنَا أَعْظَمُ مِنْ دَعْوَاهُمْ هُنَاكَ، لِأَنَّ السَّعَادَةَ الْقُصْوَى فَوْقَ مَرْتَبَةِ الْوِلَايَةِ، لِأَنَّ الثَّانِيَةَ تُرَادُ لِحُصُولِ الْأُولَى، وَلَنْ أَبْلَغُ فِي النَّفْيِ مِنْ لا، فجعلها لنفي الْأَعْظَمَ. انْتَهَى كَلَامُهُ. قَالَ الَمَهْدَوِيُّ فِي (كِتَابِ التَّحْصِيلِ) مِنْ تَأْلِيفِهِ: وَهَذِهِ الْمُعْجِزَةُ إِنَّمَا كَانَتْ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ ارْتَفَعَتْ بِوَفَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَنَظِيرُ ذَلِكَ رَجُلٌ يَقُولُ لِقَوْمٍ حَدَّثَهُمْ بِحَدِيثٍ: دَلَالَةُ صِدْقِي، أَنْ أُحَرِّكَ يَدِي وَلَا يَقْدِرَ أَحَدٌ مِنْكُمْ أَنْ يُحَرِّكَ يَدَهُ، فَيَفْعَلَ ذَلِكَ، فَيَكُونَ دَلِيلًا عَلَى صِدْقِهِ، وَلَا يُبْطِلَ دَلَالَتَهُ إِنْ حَرَّكُوا أَيْدِيَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ. انْتَهَى كَلَامُهُ، وَقَدْ قَالَهُ غَيْرُهُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ.

قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذِهِ النَّازِلَةَ مِنْ مَوْتِ مَنْ تَمَنَّى الْمَوْتَ، إِنَّمَا كَانَتْ أَيَّامًا كَثِيرَةً عِنْدَ نُزُولِ الْآيَةِ، وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ دُعَائِهِ النَّصَارَى مِنْ أَهْلِ نَجْرَانَ إِلَى الْمُبَاهَلَةِ، انتهى


(١) سورة البقرة: ٢/ ٢٤. [.....]
(٢) سورة الجمعة: ٦٢/ ٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>