طَرِيقَةٍ مُسْتَقِيمَةٍ، أَوْ فِي حَيْرَةٍ وَاضِحَةٍ بَيِّنَةٍ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ أَحَدَ الْفَرِيقَيْنِ مِنَّا وَمِنْكُمْ لَعَلَى أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ مِنَ الْهُدَى وَالضَّلَالِ، أُخْرِجَ الْكَلَامُ مُخْرَجَ الشَّكِّ وَالِاحْتِمَالِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ عَبَدَ اللَّهَ وَوَحَّدَهُ هُوَ عَلَى الْهُدَى، وَأَنَّ مَنْ عَبَدَ غَيْرَهُ مِنْ جَمَادٍ أَوْ غَيْرِهِ فِي ضَلَالٍ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ تَضَمَّنَتِ الْإِنْصَافَ وَاللُّطْفَ فِي الدَّعْوَى إِلَى اللَّهِ، وَقَدْ عَلِمَ مَنْ سَمِعَهَا أنه جُمْلَةُ اتِّصَافٍ، وَالرَّدُّ بِالتَّوْرِيَةِ وَالتَّعْرِيضِ أَبْلَغُ مِنَ الرَّدِّ بِالتَّصْرِيحِ، وَنَحْوُهُ قَوْلُ الْعَرَبِ: أَخْزَى اللَّهُ الْكَاذِبَ مِنِّي وَمِنْكَ، يَقُولُ ذَاكَ مَنْ يَتَيَقَّنُ أَنَّ صَاحِبَهُ هُوَ الكاذب، ونظيره قوله الشاعر:
فأني ماوأيك كَانَ شَرًّا ... فَسِيقَ إِلَى الْمَقَادَةِ فِي هَوَانِ
وَقَالَ حَسَّانُ:
أَتَهْجُوهُ وَلَسْتَ لَهُ بكفؤ ... فَشَرُّكُمَا لِخَيْرِكُمَا الْفِدَاءُ
وَهَذَا النَّوْعُ يُسَمَّى فِي عِلْمِ الْبَيَانِ: اسْتِدْرَاجُ الْمُخَاطَبِ. يَذْكُرُ لَهُ أَمْرًا يُسَلِّمُهُ، وَإِنْ كَانَ بِخِلَافِ مَا ذَكَرَ حَتَّى يُصْغِيَ إِلَيْهِ إِلَى مَا يُلْقِيهِ إِلَيْهِ، إِذْ لَوْ بَدَأَ بِهِ بِمَا يَكْرَهُ لَمْ يُصْغِ، وَلَا يَزَالُ يَنْقُلُهُ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ الْحَقُّ وَيَقْبَلَهُ. وَهُنَا لَمَّا سَمِعُوا التَّرْدَادَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ، ظَهَرَ لَهُمْ أَنَّهُ غَيْرُ جَازِمٍ أَنَّ الْحَقَّ مَعَهُ، فَقَالَ لَهُمْ بِطَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ: إِنَّ آلِهَتَكُمْ لَا تَمْلِكُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ، وَلَا تَنْفَعُ وَلَا تَضُرُّ، لِأَنَّهَا جَمَادٌ، وَهُمْ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ، فَتَحَقَّقَ أَنَّ الرَّازِقَ لَهُمْ وَالنَّافِعَ وَالضَّارَّ هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ. وَقِيلَ: مَعْنَى الْجُمْلَةِ اسْتِنْقَاصُ الْمُشْرِكِينَ وَالِاسْتِهْزَاءُ بِهِمْ، وَقَدْ بَيَّنُوا أَنَّ آلِهَتَهُمْ لَا تَرْزُقُهُمْ شَيْئًا وَلَا تَنْفَعُ وَلَا تَضُرُّ، فَأَرَادَ اللَّهُ مِنْ نَبِيِّهِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُوَبِّخَهُمْ وَيَسْتَنْقِصَهُمْ وَيُكَذِّبَهُمْ بِقَوْلٍ غَيْرِ مَكْشُوفٍ، إِنْ كَانَ ذَلِكَ أَبْلَغُ فِي اسْتِنْقَاصِهِمْ، كَقَوْلِكَ: إِنَّ أَحَدَنَا لَكَاذِبٌ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ مَنْ خَاطَبْتَهُ هُوَ الْكَاذِبُ، وَلَكِنَّكَ وَبَّخْتَهُ بِلَفْظٍ غَيْرِ مكشوف. وأو هَنَا عَلَى مَوْضُوعِهَا لِكَوْنِهَا لِأَحَدِ الشَّيْئَيْنِ، أَوِ الْأَشْيَاءِ. وَخَبَرُ إِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ هُوَ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ، وَلَا يُحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيرِ حَذْفٍ، إِذِ الْمَعْنَى: أَنَّ أَحَدَنَا لَفِي أَحَدِ هَذَيْنِ، كَقَوْلِكَ: زَيْدٌ أَوْ عَمْرٌو فِي الْقَصْرِ، أَوْ فِي الْمَسْجِدِ، لَا يَحْتَاجُ هَذَا إِلَى تَقْدِيرِ حَذْفٍ، إِذْ مَعْنَاهُ: أَحَدُ هَذَيْنِ فِي أَحَدِ هَذَيْنِ. وَقِيلَ: الْخَبَرُ مَحْذُوفٌ، فَقِيلَ: خَبَرُ لَا وَلَهَ، وَالتَّقْدِيرُ: وَإِنَّا لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ، فَحُذِفَ لِدَلَالَةِ خَبَرِ مَا بَعْدَهُ عَلَيْهِ، فَلَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ الْمُثْبَتُ خَبَرٌ عَنْهُ، أَوْ إِيَّاكُمْ، إِذْ هُوَ عَلَى تَقْدِيرِ إِنَّا، وَلَكِنَّهَا لَمَّا حُذِفَتِ اتَّصَلَ الضَّمِيرُ، وَقِيلَ: خَبَرُ الثَّانِي، وَالتَّقْدِيرُ: أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ، وَحُذِفَ لِدَلَالَةِ خَبَرِ الْأَوَّلِ عَلَيْهِ، وَهُوَ هَذَا الْمُثْبَتُ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ، وَلَا حَاجَةَ لِهَذَا التَّقْدِيرِ مِنَ الْحَذْفِ لَوْ كَانَ مَا بَعْدَ أَوْ غَيْرَ مَعْطُوفٍ بِهَا، نَحْوُ: زَيْدٌ أَوْ عَمْرٌو قَائِمٌ،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute