للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بِالْحَقِّ لَا بِالْبَاطِلِ، فَتَكُونُ الْبَاءُ إِمَّا لِلْمُصَاحَبَةِ، وَإِمَّا لِلسَّبَبِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا الِاحْتِمَالَ كَوْنُ قَذَفَ مُتَعَدِّيًا بِنَفْسِهِ، فَإِذَا جَعَلْتَ بِالْحَقِّ هُوَ الْمَفْعُولَ، كَانَتِ الْبَاءُ زَائِدَةً فِي مَوْضِعٍ لَا تَطَّرِدُ زِيَادَتُهَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: عَلَّامُ بِالرَّفْعِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ خَبَرٌ ثَانٍ، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ الزَّجَّاجِ، قَالَ:

هُوَ رَفْعٌ، لأن تأويل قُلْ رَبِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: رَفْعٌ مَحْمُولٌ عَلَى مَحَلِّ إِنَّ وَاسْمِهَا، أَوْ عَلَى الْمُسْتَكِنِّ فِي يَقْذِفُ، أَوْ هُوَ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ. انْتَهَى. أَمَّا الْحَمْلُ عَلَى مَحَلِّ إِنَّ وَاسْمِهَا فَهُوَ غَيْرُ مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ عِنْدَ أَصْحَابِنَا عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ فِي كُتُبِ النَّحْوِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ عَلَى الْمُسْتَكِنِّ فِي يَقْذِفُ، فَلَمْ يُبَيِّنْ وَجْهَ حَمْلِهِ، وَكَأَنَّهُ يُرِيدُ أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ ضَمِيرِ يَقْذِفُ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: هُوَ نَعْتٌ لِذَلِكَ الضَّمِيرِ، لِأَنَّ مَذْهَبَهُ جَوَازُ نَعْتِ الْمُضْمَرِ الْغَائِبِ. وَقَرَأَ عِيسَى، وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ، وَأَبُو حَيْوَةَ، وَحَرْبٌ عَنْ طَلْحَةَ: عَلَّامَ بِالنَّصْبِ فَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: صِفَةٌ لِرَبِّي. وَقَالَ أَبُو الْفَضْلِ الرَّازِيُّ، وَابْنُ عَطِيَّةَ: بَدَلٌ. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: بَدَلٌ أَوْ صِفَةٌ وَقِيلَ: نَصْبٌ عَلَى الْمَدْحِ.

وَقُرِئَ: الْغُيُوبِ بِالْجَرِّ، أَمَّا الضَّمُّ فَجَمْعُ غَيْبٍ، وَأَمَّا الْكَسْرُ فَكَذَلِكَ اسْتَثْقَلُوا ضَمَّتَيْنِ وَالْوَاوَ فَكُسِرَ، وَالتَّنَاسُبُ الْكَسْرُ مَعَ الْيَاءِ وَالضَّمَّةُ الَّتِي عَلَى الْيَاءِ مَعَ الْوَاوِ وَأَمَّا الْفَتْحُ فَمَفْعُولٌ لِلْمُبَالَغَةِ، كَالصَّبُورِ، وَهُوَ الشَّيْءُ الَّذِي غَابَ وَخَفِيَ جِدًّا.

وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ يَقْذِفُ بِالْحَقِّ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ، أَخْبَرَ أَنَّ الْحَقَّ قَدْ جَاءَ، وَهُوَ الْقُرْآنُ وَالْوَحْيُ، وَبَطَلَ مَا سِوَاهُ مِنَ الْأَدْيَانِ، فَلَمْ يَبْقَ لِغَيْرِ الْإِسْلَامِ ثَبَاتٌ، لَا فِي بَدْءٍ وَلَا فِي عَاقِبَةٍ، فَلَا يُخَافُ عَلَى الْإِسْلَامِ مَا يُبْطِلُهُ، كَمَا قَالَ: لَا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ «١» . وَقَالَ قَتَادَةُ: الْبَاطِلُ: الشَّيْطَانُ، لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَلَا يَبْعَثُهُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ:

الْأَصْنَامُ لَا تَفْعَلُ ذَلِكَ. وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ: لَا يَبْتَدِئُ الصَّنَمُ مِنْ عِنْدِهِ كَلَامًا فَيُجَابُ، وَلَا يَرُدُّ مَا جَاءَ مِنَ الْحَقِّ بِحُجَّةٍ. وَقِيلَ: الْبَاطِلُ: الَّذِي يُضَادُّ الْحَقَّ، فَالْمَعْنَى: ذَهَبَ الْبَاطِلُ بِمَجِيءِ الْحَقِّ، فلم يبق مِنْهُ بَقِيَّةٌ، وَذَلِكَ أَنَّ الْجَائِيَ إِذَا هَلَكَ لَمْ يَبْقَ لَهُ إِبْدَاءٌ وَلَا إِعَادَةٌ، فَصَارَ قَوْلُهُمْ: لَا يُبْدِي وَلَا يُعِيدُ، مَثَلًا فِي الْهَلَاكِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:

أَفْقَرُ مِنْ أُهَيْلِهِ عَبِيدٌ ... فَالْيَوْمَ لَا يُبْدِي وَلَا يُعِيدُ

وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَا نَفْيٌ، وَقِيلَ: اسْتِفْهَامٌ وَمَآلُهُ إِلَى النَّفْيِ، كَأَنَّهُ قَالَ: أَيُّ شَيْءٍ يُبْدِئُ الْبَاطِلَ، أَيْ إِبْلِيسُ، وَيُعِيدُهُ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ وَفِرْقَةٌ مَعَهُ. وَعَنِ الْحَسَنِ: لَا يُبْدِئُ، أي


(١) سورة فصلت: ٤١/ ٤٢.

<<  <  ج: ص:  >  >>