للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ابْنُ عَبَّاسٍ، إِنْ قَالَهُ فَمَقْبُولٌ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ إِنْ شَاءَ أَنْ يَتُوبَ الْعَاصِي تَابَ، وَإِنْ لَمْ يَشَأْ لَمْ يَتُبْ فَمَرْدُودٌ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَشَاءُ التَّوْبَةَ أَبَدًا، وَلَا يَجُوزُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَشَاءَ بِهَا. انْتَهَى، وَهُوَ عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِزَالِ. مِنْ بَعْدِهِ: هُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ مِنْ بَعْدِ إِمْسَاكِهِ، كَقَوْلِهِ:

فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ «١» ، أَيْ مِنْ بَعْدِ إِضْلَالِ اللَّهِ إِيَّاهُ، لِأَنَّ قَبْلَهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ على علم، كقوله: ومَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ «٢» ، وَقَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْ بَعْدِ هِدَايَةِ اللَّهِ، وَهُوَ تَقْدِيرٌ فَاسِدٌ لَا يُنَاسِبُ الْآيَةَ، جَرَى فِيهِ عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِزَالِ. وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَالِبُ الْقَادِرُ عَلَى الْإِرْسَالِ وَالْإِمْسَاكِ، الْحَكِيمُ الَّذِي يُرْسِلُ وَيُمْسِكُ مَا اقْتَضَتْهُ حِكْمَتُهُ.

يَا أَيُّهَا النَّاسُ: خِطَابٌ لِقُرَيْشٍ، وَهُوَ مُتَّجِهٌ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ، وَلَا سِيَّمَا مَنْ عَبَدَ غَيْرَ اللَّهِ، وَذَكَّرَهُمْ بِنِعَمِهِ في إيجادهم. واذْكُرُوا: لَيْسَ أَمْرًا بِذِكْرِ اللِّسَانِ، وَلَكِنْ بِهِ وَبِالْقَلْبِ وَبِحِفْظِ النِّعْمَةِ مِنْ كُفْرَانِهَا وَشُكْرِهَا، كَقَوْلِكَ لِمَنْ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِ: اذْكُرْ أَيَادِيَّ عِنْدَكَ، تُرِيدُ حِفْظَهَا وَشُكْرَهَا، وَالْجَمِيعُ مَغْمُورُونَ فِي نِعْمَةِ اللَّهِ. فَالْخِطَابُ عَامُّ اللَّفْظِ، وَإِنْ كَانَ نَزَلَ ذَلِكَ بِسَبَبِ قُرَيْشٍ، ثُمَّ اسْتَفْهَمَ عَلَى جِهَةِ التَّقْرِيرِ. هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ: أَيْ فَلَا إِلَهَ إِلَّا الْخَالِقُ، مَا تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ مِنَ الْأَصْنَامِ. وَقَرَأَ ابْنُ وَثَّابٍ، وَشَقِيقٌ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ: غَيْرِ بِالْخَفْضِ، نَعْتًا عَلَى اللَّفْظِ، ومِنْ خالِقٍ مبتدأ.

ويَرْزُقُكُمْ: جَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ خَبَرًا لِلْمُبْتَدَأِ، وَأَنْ يَكُونَ صِفَتَهُ، وَأَنْ يَكُونَ مُسْتَأْنَفًا، وَالْخَبَرُ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ لَكُمْ. وَقَرَأَ شَيْبَةُ، وَعِيسَى، وَالْحَسَنُ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ: غَيْرُ بِالرَّفْعِ، وَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ نَعْتًا عَلَى الْمَوْضِعِ، كَمَا كَانَ الْخَبَرُ نَعْتًا عَلَى اللَّفْظِ، وَهَذَا أَظْهَرُ لِتَوَافُقِ الْقِرَاءَتَيْنِ وَأَنْ يَكُونَ خَبَرًا لِلْمُبْتَدَأِ، وَأَنْ يَكُونَ فَاعِلًا بَاسِمِ الْفَاعِلِ الَّذِي هُوَ خَالِقٌ، لِأَنَّهُ قَدِ اعْتَمَدَ عَلَى أَدَاةِ الِاسْتِفْهَامِ، فَحَسُنَ إِعْمَالُهُ، كَقَوْلِكَ: أَقَائِمٌ زَيْدٌ فِي أَحَدِ وَجْهَيْهِ؟ وَفِي هَذَا نَظَرٌ، وَهُوَ أَنَّ اسْمَ الْفَاعِلِ، أَوْ مَا جَرَى مَجْرَاهُ، إِذَا اعْتَمَدَ عَلَى أَدَاةِ الِاسْتِفْهَامِ وَأَجْرِيَ مُجْرَى الْفِعْلِ، فَرَفَعَ مَا بَعْدَهُ، هَلْ يَجُوزُ أَنْ تَدْخُلَ عَلَيْهِ مِنَ الَّتِي لِلِاسْتِغْرَاقِ فَتَقُولُ: هَلْ مِنْ قَائِمٍ الزَّيْدُونَ؟ كَمَا تَقُولُ: هَلْ قَائِمٌ الزَّيْدُونَ؟ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ. إِلَّا تَرَى أَنَّهُ إِذَا جَرَى مَجْرَى الْفِعْلِ، لَا يَكُونُ فِيهِ عُمُومٌ خِلَافُهُ إِذَا أَدْخَلْتَ عَلَيْهِ مِنْ، وَلَا أَحْفَظُ مِثْلُهُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ، وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُقَدَّمَ عَلَى إِجَازَةِ مِثْلِ هَذَا إِلَّا بِسَمَاعٍ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ؟ وَقَرَأَ الْفَضْلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ النَّحْوِيُّ: غَيْرَ بِالنَّصْبِ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ، وَالْخَبَرُ إِمَّا يَرْزُقُكُمْ وَإِمَّا مَحْذُوفٌ، وَيَرْزُقُكُمْ مُسْتَأْنَفٌ وَإِذَا كَانَ يَرْزُقُكُمْ مُسْتَأْنِفًا، كَانَ أولى لانتفاء


(١) سورة الجاثية: ٤٥/ ٢٣.
(٢) سورة الأعراف: ٧/ ١٨٦. [.....]

<<  <  ج: ص:  >  >>