عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ ثَمَّ مَحْذُوفًا، وَالتَّقْدِيرُ: بِالْوَعْدِ الْحَقِّ بَشِيرًا، وَبِالْوَعِيدِ الْحَقِّ نَذِيرًا، فَحَذَفَ الْمُقَابِلَ لِدَلَالَةِ مُقَابِلِهِ عَلَيْهِ.
وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ، الْأُمَّةُ: الْجَمَاعَةُ الْكَثِيرَةُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الدُّعَاءَ إِلَى اللَّهِ لَمْ يَنْقَطِعْ عَنْ كُلِّ أُمَّةٍ. إِمَّا بِمُبَاشَرَةٍ مِنْ أَنْبِيَائِهِمْ وَمَا يُنْقَلُ إِلَى وَقْتِ بَعْثَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْآيَاتُ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى أَنَّ قُرَيْشًا مَا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَعْنَاهُ لَمْ يُبَاشِرْهُمْ وَلَا آبَاؤُهُمُ الْقَرِيبِينَ، وَإِمَّا أَنَّ النِّذَارَةَ انْقَطَعَتْ فَلَا. ولما شرعت آثار النذرات تَنْدَرِسُ، بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَمَا ذَكَرَهُ أَهْلُ عِلْمِ الْكَلَامِ مِنْ حَالِ أَهْلِ الْفَتَرَاتِ، فَإِنَّ ذَلِكَ عَلَى حَسَبِ الْعَرْضِ لِأَنَّهُ وَاقِعٌ، وَلَا تُوجَدُ أُمَّةٌ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ إِلَّا وَقَدْ عَلِمَتِ الدَّعْوَةَ إِلَى اللَّهِ وعبارته. وَاكْتَفَى بِذِكْرِ نَذِيرٌ عَنْ بَشِيرٍ، لِأَنَّهَا مَشْفُوعَةٌ بِهَا فِي قَوْلِهِ: بَشِيراً وَنَذِيراً، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ مُرَادٌ، وَحُذِفَ لِلدَّلَالَةِ عَلَيْهِ. وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ: مَسْلَاةٌ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَظِيرِ هَذِهِ الْجُمَلِ فِي أَوَاخِرِ آلِ عِمْرَانَ. وَقَوْلُهُ: فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ، تَوَعُّدٌ لِقُرَيْشٍ بِمَا جَرَى لِمُكَذِّبِي رُسُلِهِمْ.
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ. وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ، إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ، لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ، وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ، ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ، جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ، وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ، الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ.
لَمَّا قَرَّرَ تَعَالَى وَحْدَانِيَّتَهُ بِأَدِلَّةٍ قَرَّبَهَا وَأَمْثَالٍ ضَرَبَهَا، أَتْبَعَهَا بِأَدِلَّةٍ سَمَاوِيَّةٍ وَأَرْضِيَّةٍ فَقَالَ:
أَلَمْ تَرَ، وَهَذَا الِاسْتِفْهَامُ تَقْرِيرِيٌّ، وَلَا يَكُونُ إِلَّا فِي الشَّيْءِ الظَّاهِرِ جِدًّا. وَالْخِطَابُ للسامع، وتر مِنْ رُؤْيَةِ الْقَلْبِ، لِأَنَّ إِسْنَادَ إِنْزَالِهِ تَعَالَى لَا يُسْتَدَلُّ عَلَيْهِ إِلَّا بِالْعَقْلِ الْمُوَافِقِ لِلنَّقْلِ، وَإِنْ كَانَ إِنْزَالُ الْمَطَرِ مُشَاهَدًا بِالْعَيْنِ، لَكِنَّ رُؤْيَةَ الْقَلْبِ قَدْ تَكُونُ مُسْنَدَةً لِرُؤْيَةِ الْبَصَرِ وَلِغَيْرِهَا. وَخَرَجَ مِنْ ضَمِيرِ الْغَيْبَةِ إِلَى ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ فِي قَوْلِهِ: فَأَخْرَجْنا، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْفَخَامَةِ، إِذْ هُوَ مُسْنَدٌ لِلْمُعَظَّمِ الْمُتَكَلِّمِ. وَلِأَنَّ نِعْمَةَ الْإِخْرَاجِ أَتَمُّ مِنْ نِعْمَةِ الْإِنْزَالِ لِفَائِدَةِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute