للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أَسْوَدُ حَلَكُوكٌ، وَأَسْوَدُ غِرْبِيبٌ، وَمِنْ حَقِّ الْوَاضِحِ الْغَايَةِ فِي ذَلِكَ اللَّوْنِ أَنْ يَكُونَ تَابِعًا. فَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قُدِّمَ الْوَصْفُ الْأَبْلَغُ، وَكَانَ حَقُّهُ أَنْ يَتَأَخَّرَ، وَكَذَلِكَ هُوَ فِي الْمَعْنَى، لَكِنَّ كَلَامَ الْعَرَبِ الْفَصِيحَ يَأْتِي كَثِيرًا عَلَى هَذَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْغِرْبِيبُ تَأْكِيدٌ لِلْأَسْوَدِ، وَمِنْ حَقِّ التَّوْكِيدِ أَنْ يَتْبَعَ الْمُؤَكَّدَ، كَقَوْلِكَ: أَصْفَرُ فَاقِعٌ، وَأَبْيَضُ يَقِقٌ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ وَوَجْهُهُ أَنْ يَظْهَرَ الْمُؤَكَّدُ قَبْلَهُ، فَيَكُونُ الَّذِي بَعْدَهُ تَفْسِيرًا لِمَا أُضْمِرَ، كَقَوْلِ النَّابِغَةِ:

وَالْمُؤْمِنِ الْعَائِذَاتِ الطَّيْرِ وَإِنَّمَا يُفْعَلُ لِزِيَادَةِ التَّوْكِيدِ، حَيْثُ يَدُلُّ عَلَى الْمَعْنَى الْوَاحِدِ مِنْ طَرِيقِ الْإِظْهَارِ وَالْإِضْمَارِ جَمِيعًا. انْتَهَى. وَهَذَا لَا يَصِحُّ إِلَّا عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يُجِيزُ حَذْفَ الْمُؤَكَّدِ. وَمِنَ النُّحَاةِ مَنْ مَنَعَ ذَلِكَ، وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ مَالِكٍ. وَقِيلَ: هُوَ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، أَيْ سُودٌ غَرَابِيبُ. وَقِيلَ: سُودٌ بَدَلٌ مِنْ غَرَابِيبُ، وَهَذَا أَحْسَنُ، وَيُحَسِّنُهُ كَوْنُ غَرَابِيبُ لَمْ يَلْزَمْ فِيهِ أَنْ يُسْتَعْمَلَ تَأْكِيدًا، وَمِنْهُ مَا جَاءَ

فِي الْحَدِيثِ: «أن الله يبغض الشيخ الغريب»

، يَعْنِي الَّذِي يُخَضِّبُ بِالسَّوَادِ، وَقَالَ الشَّاعِرُ:

الْعَيْنُ طَامِحَةٌ وَالْيَدُ سَابِحَةٌ ... وَالرِّجْلُ لَائِحَةٌ وَالْوَجْهُ غِرْبِيبُ

وَقَالَ آخَرُ:

وَمِنْ تَعَاجِيبِ خَلْقِ اللَّهِ غَالِيَةٌ ... الْبَعْضُ مِنْهَا مِلَاحِيٌّ وَغِرْبِيبُ

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَالدَّوَابِّ، مُشَدَّدَ الْبَاءِ وَالزُّهْرِيُّ: بِتَخْفِيفِهَا، كَرَاهِيَةَ التَّضْعِيفِ، إِذْ فِيهِ الْتِقَاءُ السَّاكِنَيْنِ. كَمَا هَمَزَ بَعْضُهُمْ وَلَا الضَّالِّينَ «١» ، فِرَارًا مِنِ الْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، فَحُذِفَ هُنَا آخِرُ الْمُضَعَّفَيْنِ وَحُرِّكَ أَوَّلُ السَّاكِنِينَ. وَمُخْتَلِفَةٌ، صِفَةٌ لِمَحْذُوفٍ، أَيْ خَلْقٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ، أَيْ كَاخْتِلَافِ الثَّمَرَاتِ وَالْجِبَالِ فَهَذَا التَّشْبِيهُ مِنْ تَمَامِ الْكَلَامِ قَبْلَهُ، وَالْوَقْفُ عَلَيْهِ حَسَنٌ. قَالَ ابن عطية: ويحتمل أن يَكُونَ مِنَ الْكَلَامِ الثَّانِي يَخْرُجُ مَخْرَجَ السَّبَبِ، كَأَنَّهُ قَالَ: كَمَا جَاءَتِ الْقُدْرَةُ فِي هَذَا كُلِّهِ.

إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ: أَيِ الْمُخْلِصُونَ لِهَذِهِ الْعِبَرِ، النَّاظِرُونَ فِيهَا.

انْتَهَى. وَهَذَا الِاحْتِمَالُ لَا يَصِحُّ، لِأَنَّ مَا بَعْدَ إِنَّمَا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهَذَا الْمَجْرُورِ قَبْلَهَا، وَلَوْ خَرَجَ مَخْرَجَ السَّبَبِ، لَكَانَ التَّرْكِيبُ: كَذَلِكَ يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ، أَيْ لِذَلِكَ الاعتبار،


(١) سورة الفاتحة: ١/ ٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>