للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أُرِيدَ بِالْأَعْيُنِ الْحَقِيقَةُ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَطْمِسُ بِمَعْنَى يَمْسَخُ حَقِيقَةً، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الطَّمْسُ يُرَادُ بِهِ الْعَمَى مِنْ غَيْرِ إِذْهَابِ الْعُضْوِ وَأَثَرِهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَاسْتَبَقُوا، فِعْلًا مَاضِيًا مَعْطُوفًا عَلَى لَطَمَسْنا، وَهُوَ عَلَى الْفَرْضِ وَالتَّقْدِيرِ. وَالصِّرَاطَ مَنْصُوبٌ عَلَى تَقْدِيرِ إِلَى حُذِفَتْ وَوُصِلَ الْفِعْلُ، وَالْأَصْلُ فَاسْتَبَقُوا إِلَى الصِّرَاطِ، أَوْ مَفْعُولًا بِهِ عَلَى تَضْمِينِ اسْتَبَقُوا مَعْنَى تَبَادَرُوا، وَجَعْلِهِ مَسْبُوقًا إِلَيْهِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَوْ يَنْتَصِبُ عَلَى الظَّرْفِ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ الصِّرَاطَ هُوَ الطَّرِيقُ، وَهُوَ ظَرْفُ مَكَانٍ مُخْتَصٌّ. لَا يَصِلُ إِلَيْهِ الْفِعْلُ إِلَّا بِوَسَاطَةِ فِي إِلَّا فِي شُذُوذٍ، كَمَا أَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ:

لَدْنٌ بِهَزُّ الْكَفِّ يَعْسِلُ مَتْنُهُ ... فِيهِ كَمَا عَسَلَ الطَّرِيقَ الثَّعْلَبُ

وَمَذْهَبُ ابْنِ الطَّرَاوَةِ أَنَّ الصِّرَاطَ وَالطَّرِيقَ وَالْمَخْرِمَ، وَمَا أَشْبَهَهَا مِنَ الظُّرُوفِ الْمَكَانِيَّةِ لَيْسَتْ مُخْتَصَّةً، فَعَلَى مَذْهَبِهِ يَسُوغُ مَا قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَقَرَأَ عِيسَى: فَاسْتَبِقُوا عَلَى الْأَمْرِ، وَهُوَ عَلَى إِضْمَارِ الْقَوْلِ، أَيْ فَيُقَالُ لَهُمُ اسْتَبِقُوا الصِّرَاطَ، وَهَذَا عَلَى سَبِيلِ التَّعْجِيزِ، إِذْ لَا يُمْكِنُهُمُ الِاسْتِبَاقُ مَعَ طَمْسِ الْأَعْيُنِ. فَأَنَّى يُبْصِرُونَ: أَيْ كَيْفَ يُبْصِرُ مَنْ طُمِسَ عَلَى عَيْنِهِ؟ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَسْخَ حَقِيقَةٌ، وَهُوَ تَبْدِيلُ صِوَرِهِمْ بِصُوَرٍ شَنِيعَةٍ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:

لَمَسَخْناهُمْ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ وَقِيلَ حِجَارَةً. وَقَالَ الْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَجَمَاعَةٌ: لَأَقْعَدْنَاهُمْ وَأَزَمْنَاهُمْ، فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَصَرُّفًا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا لَوْ كَانَ يَكُونُ فِي الدُّنْيَا. وَقَالَ ابْنُ سَلَّامٍ: هَذَا التَّوَعُّدُ كُلُّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: عَلى مَكانَتِهِمْ، بِالْإِفْرَادِ، وَهِيَ الْمَكَانُ، كَالْمَقَامَةِ وَالْمَقَامِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ، وَأَبُو بَكْرٍ: بِالْجَمْعِ.

وَالْجُمْهُورُ: مُضِيًّا، بِضَمِّ الْمِيمِ: وَأَبُو حَيْوَةَ، وَأَحْمَدُ بْنُ جُبَيْرٍ الْأَنْطَاكِيُّ عَنِ الْكِسَائِيِّ:

بِكَسْرِهَا اتِّبَاعًا لِحَرَكَةِ الضَّادِ، كَالْعِتِبِيِّ وَالْقِتِبِيِّ، وَزْنُهُ فَعُولٌ. الْتَقَتْ وَاوٌ سَاكِنَةٌ وَيَاءٌ، فَأُبْدِلَتِ الْوَاوُ يَاءً، وَأُدْغِمَتْ فِي الْيَاءِ، وَكُسِرَ مَا قَبْلَهَا لتصح الياء. وقرىء: مَضِيًّا، بِفَتْحِ الْمِيمِ، فَيَكُونُ مِنَ الْمَصَادِرِ الَّتِي جَاءَتْ عَلَى فَعِيلٍ، كَالرَّسِيمِ وَالْوَجِيفِ.

وَلِمَا ذَكَرَ تَعَالَى الطَّمْسَ وَالْمَسْخَ عَلَى تَقْدِيرِ الْمُشَبَّهِ، ذَكَرَ تَعَالَى دَلِيلًا عَلَى بَاهِرِ قُدْرَتِهِ فِي تَنْكِيسِ الْمُعَمَّرِ، وَأَنَّ ذَلِكَ لَا يَفْعَلُهُ إِلَّا هُوَ تَعَالَى. وتنكيسه: قبله وَجَعَلَهُ عَلَى عَكْسِ مَا خَلَقَهُ أَوَّلًا، وَهُوَ أَنَّهُ خَلَقَهُ عَلَى ضَعْفٍ فِي جَسَدٍ وَخُلُوٍّ مِنْ عَقْلٍ وَعِلْمٍ، ثُمَّ جَعَلَهُ يَتَزَايَدُ وَيَنْتَقِلُ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، إِلَى أَنْ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَتُسْتَكْمَلَ قُوَّتُهُ، وَيَعْقِلَ وَيَعْلَمَ مَا لَهُ وَمَا عَلَيْهِ.

فَإِذَا انْتَهَى نَكَّسَهُ فِي الْخَلْقِ، فَيَتَنَاقَصُ حَتَّى يَرْجِعَ فِي حَالٍ شَبِيهَةٍ بِحَالِ الصِّبَا فِي ضَعْفِ

<<  <  ج: ص:  >  >>